كثر الحديث والجدل، فى الآونة الأخيرة، عن مسألة الشرعية، فمن قائل، فى معرض دفاعه عن رئيس الجمهورية، إنه "مع الشرعية" أو أن ما يحدث يعد "انقلابا على الشرعية" إلى من يقول، على الجانب المقابل، إن شرعية الرئيس سقطت ومن ثم فالسلطة القائمة "غير شرعية". والأمر ــ أمر شرعية الحكم ــ بما له من أهمية يحتاج إلى قدر من التفصيل والتأصيل.
مفتتح الكلام هنا يتعين أن يكون إقامة تفرقة واضحة بين شرعية الحكم ابتداءً وشرعيته انتهاءً. فالأولى هى شرعية "التولية"؛ أى كيفية تولى السلطة، أكان ذلك بالقوة أم بمبايعة عامة أم بانتخابات، سليمة كانت أم مزورة. أما شرعية الحكم انتهاءً فهى شرعية "الممارسة"؛ والمقصود هو كيف يمارس صاحب السلطة الحكم وهل تعد ممارسته للسلطة مشروعة أم غير مشروعة، وفى تقديرى أن شرعية التولية تتحقق إذا وجد "رضى عام" من المحكومين عن وصول حاكم ما للسلطة، فى حين أن معيار شرعية ممارسة الحكم هو "تحقيق المصلحة".
لا أظن أن مثالاً يمكن أن يضرب فى هذا السياق لنموذج حكم تحققت فيه الشرعيتان أفضل من تجربة محمد على الكبير (1805-1848) مؤسس الأسرة العلوية فى مصر، فقد تولى الحكم برضاً شعبى كبير بعد تزكيته ومبايعته من وجوه القوم، وأهل الرأى فى زمانه، ثم إبان حكمه حقق محمد على لمصر الكثير من الإنجازات فى شتى المجالات ما أكسبه شرعية قوية للاستمرار فى السلطة. كما أن من الأمثلة المهمة فى هذا المقام عن شرعية التولية فى تاريخ مصر الحديث هو تولى حزب الوفد للسلطة سبع مرات خلال الفترة من العام 1924 وحتى قيام ثورة يوليو فى العام 1952، فقد جاءت تولية حزب الوفد عن طريق انتخابات نيابية نزيهة إلى حد بعيد.
وتشير قراءة التاريخ إلى إمكانية أن توجد سلطة تتولى الحكم بطريقة شرعية ثم لا تمارس الحكم بما يحقق صالح الشعب، والمثال الأبرز لذلك تاريخياً هو الحزب النازى الألمانى بزعامة هتلر الذى تولى السلطة ــ فى العام 1933 ــ بموجب انتخابات حرة حقيقية، غير أنه جلب الدمار ليس للدولة الألمانية فحسب بل للعالم أجمع. أما الفرض الأخير، وهو تولى السلطة بشكل غير شرعى ولكن السلطة مورست بشكل شرعى وبما يحقق صالح الدولة والمجتمع، فلها فى تاريخنا المصرى الحديث مثال بارز وهو حركة الضباط الأحرار فى العام 1952، فقد استولت على السلطة بقوة السلاح، غير أن ما أنجزته ثورة يوليو، لاسيما على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والقومية، أكسب حركتها شرعية الاستمرار فى الحكم.
استحضار التفصيل المتقدم، بأمثلته المتعددة، للنظر فى واقعنا المصرى، يقودنا إلى التنبيه إلى الخطأ الجسيم الذى يقع فيه كل من يدافع عن رئيس الجمهورية بدعوى الحفاظ على الشرعية لكونه الرئيس المنتخب انتخابا حرا ديمقراطياً، ذلك أن مسألة انتخاب رئيس الجمهورية مضى وقتها وهى محل تسليم من الجميع وليس من أحد ــ غلا من قليل لا يؤبه لرأيهم لعم التدليل على فساد الانتخابات الرئاسية ــ ينازع فى شرعية توليته، فحقيقة المنازعة هنا هى فى شرعية الحكم انتهاء، أى ممارسة رئيس الجمهورية للسلطة منذ أن وصل إليها، من حيث تحقيقه لمصالح الناس ولكل ما انتخب من أجله.
على الجانب الآخر، تنازع بعض قيادات المعارضة المصرية فى شرعية استمرار رئيس الجمهورية فى السلطة بناء على ما قدمه، وهو فى نظرهم شر جُلّه، عبر الأشهر السبعة المنصرمة، ومن ثم تنادى "بإسقاط الرئيس"، والحقيقة أن المسألة برمتها، لاسيما شرعية ممارسة الحكم، تثير سؤالين كبيرين يتعين طرحهما وإثارة النقاش حولهما، الأول منهما: هل من معيار واضح يمكن بمقتضاه الحكم على أعمال الحاكم للوقوف على "شرعيتها" وتحقيقها لمصالح الناس؟ وهو ما يقودنا إلى السؤال الثانى وما يتفرع عنه من أسئلة مرتبطة: إذا تحقق للبعض أن شرعية الحكم سقطت، كيف يمكن إسقاط السلطة الحاكمة؟ وبأى وسيلة؟ وهل يمكن تنظيم ذلك سياسياً ودستورياً؟ محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة هى محل المقال القادم بإذن الله، وللحديث بقية.
*شهادة هيوبرت همفرى فى العلوم السياسية والقانون الدستوري-كلية واشنطن للقانون بالولايات المتحدة.
عدد الردود 0
بواسطة:
Mohamed
Excellent article
I fully agree with the writer.
عدد الردود 0
بواسطة:
Mahmoud
تحياتي للكاتب ولكن ...
عدد الردود 0
بواسطة:
boba
finally there is someone understand
wait for your new article with passion
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد عوض
نهاية شرعية الأخوان فى مصر