على مدار سنين وعقود، كانت الديمقراطية هى الغائب الحاضر فى بلادنا، غائبة عن الواقع السياسى بكل تفاصيله، وحاضرة فى مطالبات المعارضة ودعاة الإصلاح، خاصة الليبراليين، الذين نادوا وسعوا وضحى بعضهم، مثلهم فى ذلك مثل العديد من التيارات الأخرى، من أجل تحقيق هذا الهدف.
جاءت ثورة 25 يناير، وانفتحت الأبواب على مصراعيها، وبدأت نسائم الحرية، وبدأنا نحلم بدستور حضارى لبلادنا ورئيس مدنى منتخب وبرلمان حقيقى بلا تزييف لإرادة الشعب، وزاد الأمر تفاؤلاً أن جماعات وحركات كانت تتبنى العنف وترفض الديمقراطية أعلنت نبذها للعنف وقررت أن تشارك فى الحياة السياسية.
لكن للأسف، فإن الأمر بدأ يختلف على الجانب الآخر، إذ وجدنا بعض دعاة الديمقراطية يطالبون بتأجيل الانتخابات لمدة عامين واستمرار حكم العسكر، فى تناقض صارخ لكل نضالهم وتاريخهم وأُطروحاتهم الإصلاحية!!.
وجاءت الانتخابات الرئاسية فوجدناهم بدلا من أن يكونوا فى جانب مرشحى الثورة إذا بهم فى جانب النظام القديم، الذى اندلعت الثورة لإسقاطه، مبررين موقفهم بأن "دولة مدنية فى ظل النظام القديم أفضل من الدولة الدينية"، وكأن الثورة قامت ضد الدين وليس ضد نظام قمعى فاسد!!.
فى كل دول العالم، حين يخسر طرف الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية ينسحب من المشهد لفترة ليتدارس أخطاءه، ثم يعود لينافس مرة أخرى فى أول استحقاق انتخابى من أجل أن ينال ثقة الشعب، أو يناضل عبر ممثليه المنتخبين حتى لو كانوا أقلية من أجل تحقيق مشروعه.
الأمر ليس لوغاريتمات، ولا يحتاج لفلسفات سياسية، فهذا ما يحدث فى كل الدول الديمقراطية، لكنه لم يحدث فى مصر، فبعد الانتخابات الرئاسية، كفرت المعارضة بالديمقراطية، بما فى ذلك معظم الليبراليين ودعاة الإصلاح، وكأن هذه الانتخابات هى الأخيرة وليست الأولى بعد الثورة!!.
قد يكون ذلك التحول سببه الأساسى الصراع على السلطة بين تيارات وشخصيات لن ترضى إلا بكرسى الحكم، ولكن هناك أسبابا أخرى، منها الأخطاء التى ارتكبها النظام والتى تسببت فى احتقان وانقسام وحالة من الاستقطاب تزداد يومًا بعد يوم.
إن الفريق الذى يرى أن الرئيس مرسى لم يخطئ سياسيًا ولم يخالف بعض وعوده، هو فريق منحاز لا يريد أن يرى إلا النصف المشرق، والفريق الذى لا يقر بأن هناك من يتربص بالرئيس ويعارض قراراته سواء كانت صحيحة أو خاطئة، هو فريق غير محايد لايريد أن يرى الحقيقة .
لقد أخطأ الإخوان حين خالفوا تعهدهم للشعب وقاموا بترشيح مرشح فى انتخابات الرئاسة، وأخطأوا حين ابتعدوا عن الميدان، وأخطأوا حين وعدوا بوعود تفوق قدرتهم فى اتفاق "فيرمونت"، هذه الأخطاء وغيرها خصمت من رصيدهم لدى الكثيرين.
لذا، فمن حق كل من له ملاحظات على الإخوان أن ينتقدهم وينصحهم ويسعى لتصويب الطريق، ومن حق كلٍ منا أن ينتقد ويعارض الرئيس محمد مرسى فى أى قرار، ومن حق أى طرف فقد الثقة تمامًا فى الإخوان أن يسعى للتغيير، لكن احترام إرادة الشعب وقواعد اللعبة الديمقراطية تجبر المعارضين لأى رئيس منتخب أن يكون سعيهم لإسقاطه باللجوء لنفس الآلية التى جاء بها، عن طريق الصندوق أو وفقًا للدستور.
لقد نصت المادة 152 من الدستور على أن "يكون اتهام رئيس الجمهورية بارتكاب جناية أو بالخيانة العظمى؛ بناء على طلب موقع من ثلث أعضاء مجلس النواب على الأقل؛ ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثى أعضاء المجلس..".
ووفقًا لنفس المادة أيضًا فإنه بمجرد صدور هذا القرار يُوقف رئيس الجمهورية عن عمله، ويحاكم أمام محكمة خاصة يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى، فإذا حُكم بإدانة رئيس الجمهورية أعفى من منصبه مع عدم الإخلال بالعقوبات الأخرى.
لذا، فإن الذين يطالبون بإسقاط الرئيس قبل انتهاء مدته، ويقولون إنه "لا يمكن أن ننتظر أربع سنوات حتى ننتخب رئيسًا جديدًا للبلاد"، فإنهم وفقًا للدستور، ليسوا مطالبين بالانتظار!!، بل يمكنهم بعد شهرين فقط، عبر الانتخابات البرلمانية أن يحققوا مرادهم، ووفقًا للآليات الديمقراطية والقانونية، أما إذا كان الرئيس المنتخب لم يرتكب جناية أو إذا كانوا لا يستطيعون تحقيق الأغلبية فى البرلمان، فليس من حقهم أن يتحدثوا عن أنهم يمثلون الشعب فى المطالبة بإسقاط النظام.
لقد قامت ثورة 25 يناير 2011 عندما أغلق النظام السابق كل طرق التغيير السلمى، بتزوير الانتخابات، والقمع، وبإفقار الناس، وبالتالى لم يكن هناك منفذ لإزاحة هذا النظام سوى الثورة.
وقد نجحنا بالفعل بعد الثورة، وبعد عقود من الديكتاتورية فى وضع آليات جديدة وديمقراطية للتداول السلمى للسلطة، تكفل أن نسقط أى نظام بالانتخابات وبالدستور وبالمحاسبة والرقابة، لذا فإنه ليس من العقل والحكمة والمنطق أن نهدم ونقضى على هذا الإنجاز الذى يُعد أهم منجزات الثورة، ولو لم تفعل الثورة سواه لكفى، لأن ذلك هو القاعدة التى يبدأ بها أى بناء.
أما إذا قررنا إسقاط الرئيس المنتخب بالاضطرابات والقلاقل والحرق والعنف ـ أو حتى بغض الطرف عن ذلك ـ وليس بالوسائل الدستورية والديمقراطية، فلا يجب أن نلوم الآخرين، لأنهم سيسعون بالوسيلة نفسها وربما أعنف لإسقاط الرئيس الجديد الذى انتخبناه، وبعدها لن ينفعنا البكاء على اللبن المسكوب، لأننا وأدنا الديمقراطية بأيدينا واخترنا العنف بديلا.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
اشرف سمير
يسلم فمك يا مشهور
تحليل صحيح 100٪
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود يسن
تحليل منطقى
تحليل منطقى
عدد الردود 0
بواسطة:
شخص مجهول
الشعب الكسلان
بجب على كل مصرى ان يستيقظ