على رمضان يكتب: عشق ودموع وزجاجات المولوتوف

الثلاثاء، 12 فبراير 2013 02:56 م
على رمضان يكتب: عشق ودموع وزجاجات المولوتوف صورة ارشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم تعبأ العجوز الألمانية - بما أطلقته دولتها من تحذيرات وما صرح لها أصدقاؤها من مغبة السفر إلى مصر فى هذه الحال التى تبدو فيها مصر ساحة من القتال يشتعل فى أرجائها النيران، فقد أحبت المرأة مصر وعشقت اسمها وتراب أرضها عشقا أخذ بلبها وملأ فؤادها، وعصرها الألم لما تعيشه مصر فى الآونة الأخيرة، لما رأت مشاهد قذف زجاجات المولوتوف التى أشعلت النيران فى مصر، وارتعدت المرأة من هول المنظر فكان اللهيب يسقط فى جوفها ويتساقط على رأسها قبل أن يسقط فوق أرض مصر، ولازمتها الكوابيس والنحيب والأحزان، وفى النهاية حزمت حقائبها وأوجاعها وآلامها وقررت السفر إلى مصر مصطحبة معها حفيدتها.

السيدة جيزيلا التى تعدى عمرها الثمانين هى أكبر عاشقة لمصر عرفتها الأيام، زارت مصر أكثر من عشرين مرة وكل مرة تجد فيها جديدا وكأنها تزورها لأول مرة ، أعجبت لفترة بالأهرامات والمعابد والمقابر المصرية القديمة، ولكن الذى كان أشد جاذبية ورسخ فى قلبها وعقلها وملك جوارحها وأسر عواطفها وإحساسها واستبد بفكرها، التآلف الفطرى الذى يربط بين البشر فيها كما يربط بين الشوارع والأزقة والحنايا، حكمة الله الذى صنع فى مصر سيمفونية طبيعية خاصة لا توجد فى غيرها من بلدان العالم، فكما تلتصق الشوارع الضيقة والحوارى والحنايا يلتصق فيها البشر ويتلاحمون ويتحدون، فالأفراح مشتركة مثلها مثل الأحزان والأتراح.

المرأة لم يدهشها شموخ الهرم كما أذهلتها أضواء الحسين ولياليه ومقاهيه والتفاف المصريين حول الشاى بالنعناع، و"تخميسهم" السيجارة، وكوب الشاى أيضا.

فى إحدى زياراتها لمصر وهى ابنة الثلاثين تعرفت على شاهين الدكرورى عامل الغزل والنسيج من صعيد مصر وتزوجته بعدما أحبته، وسافر الرجل معها ليعمل فى أحد مصانع ألمانيا، وأحبه الألمان وتعرفوا من خلال أخلاقه وأمانته وشهامته على الإسلام الذى لم يتقن الدعوة إليه إلا بخلقه واستقامته، وأنجبت منه ابنة وحيدة هى أم حفيدتها التى تصاحبها الآن، وعاشا معا فى سعادة غامرة ينتقلان بين ألمانيا ومصر التى عاشت فيها أحلى أيام حياتها، ومات عنها زوجها تاركا ميراث حب فى قلبها وفى قلوب كل من عرفه، وفى قلب حفيدته التى تهوى مصر كجدتها.

هكذا وصفت السيدة الألمانية مصر فى لقائى بها الذى صنعته الصدفة وحدها فوق سطح باخرة بصعيد مصر، وكنت أجلس بينها وبين حفيدتها ذات الثلاثين ربيعا، فكأنى أجلس بين الماضى بذكرياته وتاريخه الصادق، وبين المستقبل بأمله ورغبته الجارفة فى الانطلاق والتحدى، وأخذت أتامل وجه الحفيدة الجميل الذى جمع بين وسامة الشمال وأصالة الجنوب.

كانت العجوز تحكى عن مصر وكأنها بيتهوفن يعزف مقطوعة الرعاة التى عبر فيها عن حبه للكون والطبيعة رغم عاهة عدم سمعه التى صاحبته فى حياته، تحكى أنها كانت تنزلف باكرا من فندقها المطل على النيل لتسير فى طرقات وسط البلد، لا لشىء سوى لتستنشق عبير الماضى فى مبانيه العتيقة وعماراته القديمة، ثم تواصل السير إلى ميدان القلعة عبر شارع محمد على، لتجلس لحظات فى مسجد السلطان حسن، لتتجول بعدها حول القلعة لتملأ رئتيها بأنفاس أزقتها وحواريها، فهؤلاء هم المصريون حقا كما تراهم.

المسكينة لا تزال تحلم بماض زخرت فيه مصر وامتطت ظهر الجواد، كأنها تبحث عن المعز وعن صلاح الدين، وعندما ذكرت يوم أن رأت فى بلدها مشاهد تساقط زجاجات المولوتوف سقطت معها دموعها لتكمل لوحة عشق مصر الجميلة، انهمرت الدموع الألمانية شفقة ورحمة بمصر، لتسقط هذه الدموع عارا يصيب العيون المصرية الخالية من دموع الرحمة والشفقة بوطنها.

لم أجد ما أكفكف به دموع العجوز، فالكلام تشابك ليسد حلقى، فهل أقول لها أن سيمفونية بيتهوفن الجميلة عن الرعاة زالت وحلت محلها أوبرا كارمينا بورانا التى تجسد صراعات البشر، بين الخير والشر، والشياطين والملائكة.

هل أقول لها إن الأنفاس العبقة البكر التى طالما بحثت عنها فى أزقة وحوارى بلدنا، صارت أنفاسا شريرة عفنة ملوثة بروائح غريبة عن مصر، تتجول فى أنحائها أشباح وشخوص غرباء عن مصر، يقتاتون دماء أصحابهم وذويهم مقابل حفنة مال وقرص ترمادول وباكتة بانجو.

هل أقول لها إن مصر الشابة الجميلة ذات الشعر الأسود والعيون المكحولة الجميلة، تحولت إلى امرأة منكوشة الشعر طويلة الأظافر تنهشها مذعورة خائفة فى لحم من يقترب منها.

هل أحكى لها أن من كانوا يقتسمون رغيف العيش أصبحوا يتخاطفونه بقسوة وأنانية، ومن كانوا "يخمسون" فى سيجارة أصبحوا يطفئونها فى أجساد بعضهم البعض، ومن كانوا يشتركون فى الأفراح والأتراح أصبحوا يقيمون المآتم دون أن يقدم أحدهم على المواساة والتعازى.

فأصبحت سرادقات الأفراح والمآتم خاوية.. وأصبحت إشارة أصابع النصر ترفع عند مقتل صديق وذبح رفيق.
لم أقل لها شيئا من ذلك وابتلعت آلامى وانصرفت مستأذنا.

وفى وداعى لها نظرت إلى من بعيد هى وحفيدتها وأشارت بالوداع، وكانت إشارتها تقول أنها قرأت صمتى وفهمت ما خبأته عنها.

وداعا جيزيلا صاحبة القلب الرحيم على مصر، فى أيام قست قلوب أبناء مصر عليها ليحطموا كوخها وينهبوا كيس نقودها الضئيل ويهدروا دمها العطر الطاهر الشريف.





مشاركة




التعليقات 5

عدد الردود 0

بواسطة:

أشرف

الله ينور ياعلوة

مقال معبر وسهل ممتنع يابوعلوة ربنا يزيدك

عدد الردود 0

بواسطة:

يزن خلف

ابببببببببببببببببببببببوووووووععععععجرم

تكرم عيونكك

عدد الردود 0

بواسطة:

هالة الدسوقى

كلمات فى عشق مصر

عدد الردود 0

بواسطة:

مشارى العنزى

تحية لمصر

عدد الردود 0

بواسطة:

مصرى أصيل

تمرض ولاتموت

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة