هذا صاحبى يمر بنافذة مخدوشةٍ فى شارع جانبى، فيكتب عنها مقالا طويلا يتلهَّب بالغيظ على ذاك المجرم الذى نال من حُرْمِة النافذة!
وهو صاحبى نفسه الذى مر بالبيت نفسه، وقد اشتعلت فيه النيران، وأوشكت تذهب به كُلِّه، فوقف مع الناس مشاركًا فى طقس العادة المصرية العتيقة عند وقوع حادثٍ: المشاهدة فى دهشة!
موقفان يدلان على زيفٍ غائر فى البصيرة التى تعمَى عن الحريق، وتنزعج لخدش أو شرخٍ أصاب نافذةً صغيرة فى شارع جانبى!
وهذا المثال يُدْنِيك من فهم بعض الذى تراه من مواقف ملتبسة تضخم الصغير، وتُبلِس متحيرةً أمام الحرائق المشتعلة فى جدار الديانة وأصولها، والشريعة وقواعدها، حتى أحاطت الغربةُ بكثيرٍ من قواعد الإسلام، لا عند الناس وحدهم، بل عند بعض الذين يتكلمون باسم الدين، ويدَّعُون العمل له!.
وسِرُّ هذا الخلل البغيض: أن كثيرًا من الأفكار التى كانت منبوذةً من قبلُ عند الأمة كُلِّها- بعلمائها ومفكريها ودعاتها ومثقفيها، على اختلاف مشاربهم ونزعاتهم وانتماءاتهم المذهبية- وجدتْ لها ملاذًا آمنًا ومتصالحًا تحت بعض العمائم وخلفَ بعض اللحى وباسم بعض الدكاترة أهل التخصص، واتسع المجال لتمرير كثير من المناقضات الفكرية والعقدية، ورُصِفَت الطرق ومُدَّت الجسور مع كل وافدٍ من المنكرات ولو كان يحمل فى يديه كل ما لا يكون به الإسلام إسلامًا!
حتى صار الإسلام ملونًا بلون صاحبه ومشربه وفكره واعتقاده، فهذا يحمل إسلامًا مستنيرا، وهذا إسلاما حداثيا، وهذا إسلاما ماضويا، وهذا إسلاما راديكاليا، وهذا إسلاما وسطيا، وهذا ينتمى إلى "إسلام الصحراء"، وذاك ينتمى إلى "إسلام النهر"!
ثم تنامى الأمر فاختزلنا الإسلام "كدين"، وحولناه إلى "اتجاه"، أو "تيار"، يؤمن به طائفة من الناس، ويرونه-!!-صالحًا للاحتكام إليه، والحياة به، وهذا رأيهم!
بينما يرى آخرون، أننا نستطيع مجاوزة هذا " الاتجاه"- فهو لم يعد دينًا!- واختراعَ شىء ننظم به حياتنا، ونحتكم إليه فى معاشنا، ونبنى على أساسه قوانيننا!
فانقلبت الآية، وصار الدين "اتجاها فكريًّا" قابلا للنقاش أو الرفض باعتباره رأيًا من الآراء، وصار الاتجاه الفكرى "دينًا" لا يقبل النقاش"، ولكن لا يسميه الداعون إليه دينًا، حتى وإن احتكموا إليه وبَنَوا فلسفة الحكم والقانون والحياة عليه، حتى قيل فى لهجةٍ غاضبة مستنكرة: فلان "لا يؤمن" بالليبرالية، وفلان "لا يؤمن" بالديمقراطية، وفلان "لا يؤمن" بالاشتراكية.. ثم يكذبون فى النهاية ولا يسمون هذا دينا!.
وبعضهم يكون طريفًا فى أدائه الفكرى، فيزعم المناداة بتطبيق الشريعة، ويعنى بذلك المصلحة، التى لا يضبطها شرع، ولا يحكمها وحى، وإنما هى المصلحة المطلقة العارية من كل قيد أو شرط وفق ما يراه هو، ولقد تكون المصلحة "التى هى الشريعة عنده" فى تعطيل الشريعة وتبديل أحكامها وتمييع ثوابتها!
ومن لوازم ذلك أن نسمع عن فلان الذى ينكر الحجاب، أو يعادى النقاب، أو يحارب آيات الميراث، أو يعتدى على السُّنَّة، أو يستهزئ بالتعدد، أو ينكر ولاية الرجل على أهله، فهذا رأيه! ولم لا وقد تحول الإسلام كله، وهو دين رب العالمين، إلى فكرةٍ أو اتجاهٍ أو رأى أو تيار؟!
وهذه العَلْمَنَة الفكرية المتغلغلة فى عصب الحياة الآن، والتى ارتقت حتى اتخذت لها لسانًا شرعيًّا، كانت واضحةً بمفاهيمها عند علماء الأمة ومفكريها، حتى من كان منهم ذا منصب رسمى فى الدولة، كوزير الأوقاف الأسبق الدكتور محمد البهى رحمه الله.
وهذا قلمى فى يديه، فاقرأ ماذا يقول عن أثر العلمانية، بعد كلام طويل عن تاريخها: ".. وتدريجيًّا يخفُّ الرجوع إلى التراث الإسلامى والمصادر الإسلامية، ويتجه (الاعتماد) على ما للغرب من (ثقافة وتشريع وتخطيط) فى البحث والتعليم، وبذلك يضعف (استقلال) المجتمعات الإسلامية، بينما تشتد (تبعيتها) لصاحب القوة فى التوجيه وصاحب المصلحة فى إضعاف استقلال المجتمعات الإسلامية"
ويقول وزير الأوقاف الأسبق الشيخ محمد متولى الشعراوى رحمه الله: " يدعو العلمانيون إلى جعل الدين علاقةً خاصةً بين العبد وربه، وإلى جعل المرجعية فى السياسة والاجتماع والاقتصاد وتنظيم الدولة للعقل والتجربة، وكلمة (علاقة) هذه تسمية خاطئة؛ لأن معنى العلاقة لا يتأتى إلا بين طرفين كلاهما (محتاج) للآخر، أى أن العلاقة تنشأ لربط مصالح الناس ببعضها، والله بصفات كماله وجلاله موجودٌ قبل أن يخلق الإنسان.. وليس فى حاجة إلى أحد.. ثم على فرض منطقكم: ما مطلوبُ الله منا فى هذه العلاقة الخاصة؟ أن نتعبد، أن نصوم، أن نُزَكِّى.. لماذا؟ هذه كلها تكليفات لإعلان الولاء لله تدريبًا لنا، حتى إذا وقفنا بين يدى حكم الله أو بين يدى الله تساوينا جميعًا فى الطاعة".
وكلامهم فى هذا كثيرٌ منشور، ككلام المشايخ: عطية صقر، ومحمد حسين الذهبى، ومحمد المسير، وجاد الحق على جاد الحق، ومحمد الغزالى، وغيرهم الكثير رحمهم الله- ممن لم يكونوا من أبناء "مؤسسة راند"، ولا من مترجمى تقاريرها فى أرض الواقع بالقول والفعل والسلوك!- وكم كتبوا وتكلموا تبيانًا لهذه الحقيقة العُظْمَى التى يوشك أن تضيع فى زحام الصخب تعليقًا على تصريح أو فتوى، وكأنما أَنْسَانَا ضجيجُ النوافذ المكسورة، ذهابَ البيت أو احتلاله!
وساعتها لن يستقر لصاحب البيت قرار، ولن يجد مس الطمأنينة، وظلال العدل والرحمة، على أرصفة الطرقات الفكرية وإن كانت من رخام لامع! ولا بد له من بناء البيت والرجوع إليه.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد علي
ممتاز
عدد الردود 0
بواسطة:
سحر
ربنا يجازيك خير
ربنا يبارك في أمثالك ويكتر منهم
عدد الردود 0
بواسطة:
الفنكوش المصرى
بهلول فى الأتحادية و الشعب فى الضياع !! مفيش فايدة