لا أدرى متى بدأ السعى؟ الخُطى الأولى، الانتقال من الكون الذاتى وولوج عالم آخر مغاير له قوانينه ونواميسه التى تجرى بخلاف ما يوجد فى قدس أقداسنا، لم أستطع أن أسير مغمض العقل بعد أن انتابنى إحساس بوجودى الحقيقى، كنت قبلها لا أدرى سر الانتقال، التجاوز الذى يمنح فرصة جديدة دوما لاستنبات الحياة وولادتها من جديد، لم أدرك أن متعة الحياة فى تقافز أيامها لا فى رسوّها فى حال واحد، حتى وإن لم يسرنا تبدل أحوالها، وتغير أطوارها.
منذ تخطى مرحلة الحبو إلى الخطو وامتداد يد العبث إلى الأشياء انداحت نقطة سوداء لتملأ وجه الصفحة مُقلصة مساحة البياض إلى فقاقيع صغيرة عمرها قصير جدا.
أنسحب إلى نفسى فأجدنى فى عراك دائم معها كلانا يزاحم الآخر، أيهما أحق بالوجود، أيهما أحق بالخروج ومواجهة الحياة، أخرج من المعركة مع ذاتى مثخنا بالجراح، ممتلئا بتجارب تمد لى خيوط الأمل بغد أفضل وبقلم طيّع ويد غير متيبسة أو عاجزة.
فى وجدانى اعتقاد راسخ بأن الكتابة هبة إلهية يهبها الله لعباده المتوضئين بنور الكلمات، وفى اعتقادى أيضا أننى ممن يبطل وضوؤهم؛ لتعجلهم؛ فكثيرا ما أخطأنى ذلك النور، أنفصل عن ذاتى لأواجه ذواتا أخرى، حيوات تتحرك أمامى، شخوصا لم ألقهم فى واقعى، أحداثا أرتنى تفاهة الحياة، زادها إلغازا حرص من يتكالبون عليها، كل ذلك بُنى فى نفسى يوم أن ولجت عالم الأدب، كنت أصرخ دوما لولا النور- نور الكلمات - لاخْتُصِرَت رحلةُ الحياة.
فى البداية كان الشعر قرينا عندى بالسحر والسحرة، حقا إن الشعراء سحرة، ألا يجعلك شاعرٌ تردد بيتا من قصيدة له دائما وكأنها تعويذة ضد الشر، من يعرف السر فله حق الملاحاة!، الشعر هو أحد الفنون التى يمكن لها أن تهزك دون أن تفهمها، أذكر أنى ظللت مفتونا ببيت لامرئ القيس كنت أردده ولا أفهم مغزاه كان وراءه قصة لم أعلمها، لم أدرِ سر محنة الشاعر عندما قال:
بكى صاحبى لما رأى الدرب دونــه وأدرك أنــــَّـا لاحقان بقيصرا
فى طفولتنا لا ندرك أن هناك أيدٍى لها سطوتها تحركنا من فوق، تجرى الكلمات على أفواهنا، ننطلق فى الجرى فى أكثر الشوارع ازدحاما دون أدنى رعشة خجل من نظرات المارين من حولنا، أظن أن قوى خفية- بعد ذلك- تجعلنا أكثر تقيدا، مكبلين بما تفحُّه هذه القوى من نفثات تعوقنا عن السير. تبدو الأيام مكلسة ندفعها ببطء ولا يكاد يبين تحركها، ومع اشتداد العود تدفعنا فتنطلق أقدامنا من أثر الدفعات المتتالية ويسقط من لايحتمل قوة الدفع.
كانت وقدة الحماس فى أوجها، ننطلق بكل ما نملك من نهم لنجيب عن الأسئلة المُلحة، الإجابة نجدها بين الصفحات، ربما لايتحقق وجودها فى عالم الواقع ومن يُقلب أكثر يعرف أكثر، لكنّ الحياة قصيرة والأسئلة لاتتوقف، نحتاج لحيوات أخرى نضيفها لحياتنا كى نفهم، ونفض الاستغلاق الذى يؤرقنا.
أى عبثٍ سوف تبدو الحياة لو لم يحاول الإنسان استكناه الوجود، المحاولة ترياق لسموم تنفثها الحياة بآلة الملل وتشابه أوراق الأيام.
توحدت كثيرا مع رويات وأعمال قرأتها حد الإحساس بالعمى وأنا أقرأ رواية العمى لساراماجو، تحول كل ماحولى إلى كون بلون الحليب، وفى رواية الحرافيش شعرت أنى واحد من حرافيش نجيب محفوظ وكرهت الفتوات، تعاطفت كثيرا مع عائشة بطلة رواية " يوم غائم فى البر الغربي" للمنسى قنديل، وتمنيت صحبة الطبيب فى رواية ثقوب فى الثوب الاسود لإحسان عبد القدوس، وحيرتنى معاناة الماتيس، وكنت فى السجن مع ( ألكسندر بتروفتش ) فى رائعة ديستويفسكى ذكريات من منزل الأموات، وفى ثلاثية محفوظ كنت أعيش فى بيت السيد أحمد عبد الجواد لأرى جبروته الممزوج بالرقة والعطف.
لم أكن أحب المسرح، لكن بعد ولوجى عالم توفيق الحكيم تورطت فى حبه، بعد قراءات متعددة لأهل الكهف والورطة وبيجماليون وغيرها، ورغم الحب الجارف إلا أنى وقفت على عتبة شكسبير محاولا إجتيازها.
ما زلت أحاول، ومازلت أتعلم الكتابة يوما بعد يوم، فيا من منحونى ابتسامة مشرقة كصباح وليد، هل تسمعون أنّاتِ القلم وهو ينتحب وقت تجافينا؟ هل جربتم ذلك الاصطراع بعيدا عن الورق والقلم؟!
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
رفيدة محمد عبد المنعم
احسنت يا أستاذ