محمد غنيم يكتب "موكب منسى"

الأحد، 10 فبراير 2013 06:12 م
محمد غنيم يكتب "موكب منسى"  محمد غنيم

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
استطاعت الشمس أن تغرب متسللة بين السحب، تتركنى وحيداً تحت سماء روما، داخل شكل معمارى قديم وإن كان أشبه بالمبانى المصرية العتيقة، مذاق أسماكه المشوية توقظ بداخلى رائحة عروس البحر"الإسكندرية".

مطعم أرما.. ندو

اعتدت دخوله يوم الجمعة، من كل أسبوع طيلة خمس سنوات بانتظام عدا أيام زيارتى المحدودة للمحروسة أم الدنيا، أصحاب المطعم ورواده يذكرونى جيدا..
ً
لم أر شخصا مصريا يوقظ بداخلى صوت القطار وزحمة الأتوبيس.. عربة الفول وطابور العيش.. مظاهر افتقدتها كلما بعدت عن حضنها الحنون..

حتى وجدته يقلم أغصان الزهور بحديقة المطعم، ملامحه الأصيلة، المختلفة عن وجوه غيره، جعلتنى أنظر إليه بتمعن حتى شربت عينى وارتوت.. بشرة سمراء لعيون عسلية وشعر قصير مجعد.. شيب الملامح لجسد نحيل..

يدندن بصوته الخافت "ودارت الأيام ومرت الأيام" لأم كلثوم، تلك الكلمات جعلتنى أنصت إلى نبرات صوته التى تبوح بمصريته، استوقفتنى كلماته.. كدت غير قادر على الحركة حدثته بالعربية.. لم يبادلنى أدنى اهتمام كررتها مرة أخرى دون جدوا نطقت كلمات إيطالية صمم على أن يكون أصم، وكأننى سمعت النداهة فى مطاعم روما العريقة.. بلا إرادة اعتاد لسانى أن يردد كلماته "ودارت الأيام ومرت الأيام".

ظل هذا الوجه الأسمر لغزا أبحث عن فك شفراته.. حاولت الذهاب مرة أخرى لنفس المطعم فى أقل من ثلاثة أيام سألت عليه لم يجبنى أحد، أصابهم الصمت مثله تماما ازداد الأمر تعقيداً وأخذت حلقاته تتشابك.

راقبت المطعم كتربص الصقر لفريسته، وجدته يخرج من باب الحديقة حذر بخطوات مترددة على الإقدام للخلف يتبعها خطوه واحدة للأمام.

استوقفته بلسان إيطالى لعيون مصرية أسفل نظارة شمسية متخفية فى حضن قبعة دائرية أشبة بحفلة تنكرية.

سألته عن اسمه، صمت قليلا حتى أجاب "فاك توم" سألته عن جنسيته أجابنى بالصمت المبهم كعادته ازداد الأمر تعقيداً حتى خلعت نظارتى وألقيت بقبعتى إلى الأرض أطلقت طلقات من لسانى تتبعها انفعالات أنت مصرى أنت مصرى..

نظراتى الحادة الحانية لتجاعيد وجهه المتشابكة، وكأنها خريطة ترسم شقاء هذا الرجل وتعاسته جعلت ملامح الخوف تتخلل جوانحه، وكأنه أشتات عاصفة تتجمع، فاضت عينيه دمعاً حتى ارتوى معطفى من بكائه تحول المشهد من رجل مسن إلى طفل برىء يبكى.

ركبت سيارتى وهو يجلس بجوارى أهدئ من روعه.

منسى

كأن لحياته من اسمه نصيب فهو منسى..
ترك بلدته فى صعيد مصر منذ ما يقرب من عشرين سنة أو أكثر، إثر خلافات بين أحد أفراد عائلته وأخرى انتهت بمقتل أحد شبابها مطالبين القصاص منه لكونه أكثر أهلة تعليماً، فهو حاصل على ليسانس الحقوق ظل الثأر يلهث خلفه دون أدنى ذنب سوى حصوله على مؤهل عال تاركاً قريته ودولته مصر، متجهاً إلى ليبيا.

أربع سنوات ظن فيها الطمأنينة وبدأت زهور الأمل تتفتح فى طريقه حتى قابله أحد شباب قرية مجاورة لبلدته تحولت الزهور المتفتحة لأشواك فى طريق صحراوى دفعته للسفر إلى إيطاليا عبر البحر هرباً من شبح الثأر الذى يطارده أينما كان معاهداً نفسه أن يبتعد عن كل ما هو مصرى حفاظاً على ما تبقى من حياته.

منسى الأب
أنا أول شخص مصرى يتحدث معه فى روما، بل ويتخذه أباً فنظرات عيونه المنكسرة لجسمه الهزيل وسنه الكبير تفيض بحنان الأب.

نوال زوجته
مشاعره اتجاهها تزداد ريعاناً بالرغم من بعد المسافة والزمن إلا أن حبها بداخله أخذ من الأوتاد رسوخاً ومن شيم النخل ارتفاعا يستطيع فى أقل من عشرة دقائق رسم صورة حية لها ماسكا الفحم بين أصابعه وكأنه رسام ماهر.

فريدة ابنته
لم ترها عينه أبدا منذ أن تركها تلعب داخل أحشاء أمها فى يومها السبعين.
يرسمها صورة تفوح بعطر الأنوثة ممزوجة الملامح بينه وبين نوال.
غرفته المتواضعة مخزن صغير لجهاز عروسة انتابتنى الدهشة عن هذه الأشياء أجابنى بابتسامة مشرقة ممتدة لطريق أمل مملوء بالسعادة هذا جهاز ابنتى فهى على وش جواز وقتها رأيت شعاع الأمل يشرق من وجهه مصحوبا بنسيم الفرح يغمر عينيه.
ذكر أنه من أفضل الماركات العالمية حتى التحف والأنتيكات وجدت للأمل طريق فى عينيه مما زادنى ارتباط شغل حيز كبير من فراغ الغربة الساكن بداخلى.

كان بالنسبة لى وطن أعيش فيه وطن منسى.
حديثه عن قريته الفقيرة فى قلب محافظة سوهاج يصف دروبها وكأنه تاركها أمس يوقظ بداخلى مصريتى التى قلما وجدتها فى مجتمع غربى وإن بحثت عنها كثيراً.

حزن
فجأة بدون مقدمات عانقنى الحزن والأسى وتحولت حياتى من السعادة إلى الكآبة المفرطة
حتى وصف الأصدقاء علاجى زيارتى لمصر ولو لأيام.

قرية منسى

قرية بسيطة منازلها مكعبات متشابهة متراصة يخيم عليها طابع الفقر.
عرفت المنزل دون سؤال فأنا أحفظه جيدا وأن كنت لم أره أبدا.
كلما اقتربت من الباب تتحول خطواتى الأمامية لاندفاع خلفى وكأن هناك من يعوق حركتى اتجاهه.

باب خشبيى متآكل الألواح كأنه لوحة لفنان تعبر عن الحزن والفقر، بصمة منسى تخلل أرجاء المكان، طرقت أناملى الباب بحذر.

خرجت سيدة فى عقدها السادس خلفها بنت فى شبابها.
قبل أن يتوجه لى أى سؤال تساقطت الكلمات من شفتى أنت فريدة ابتسامة تفوح وكأنها عطر منسى التى قلما وجدتها مرسومة على وجهه.

الست نوال
تفرك كفيها فى جلبابها يبدو أنها قامت من أمام الفرن فالون الدقيق رسم على ثوبها الأسود خيوط مزركشة.

سألتنى:
من أنت؟
يا لها من إجابة صعبة كم أعددت كلماتها.
لم أنطق سوا حروف اسمه كلمات لا تتعدى الجملة أو أقل حتى وجدت الزغاريد تتسابق.
التف أهل القرية يتسالون عن السبب حتى ازدادت أصوات الفرح انطلاقاً.
أنزلت جهاز العروسة من سيارتى وأعطيته لفريدة فهذا ما أعده أبوها لزواجها إما نوال فأعتيطها حقيبة صغيرة جداً بها بعض الوريقات التى أثبتت وفاته، فجأة تحول الفرح إلى موكب منسى






مشاركة




التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

Hesham Mabrouk,Abu Dhabi

واقع يتكرر

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة