لا ينكر عاقل أننا نعيش فى ظل معضلة اجتماعية مستعصية، ستلقى بظلالها الكئيبة على العلاقات الاجتماعية والأسرية فى المجتمع المصرى لسنوات قادمة.
فجماعة الإخوان بغض النظر عن اتفاقك أو اختلافك مع منطلقاتهم الفكرية ـ هم فى النهاية أفراد من المجتمع أو أسر أو عائلات، هذا الفرد قد يكون أحد أفراد أسرتك أو عائلتك أو أقاربك بدرجات القرابة المتفاوتة. وقد يكون أنت شخصيًا فى فترة ما من فترات حياتك. وأنا شخصيًا كنت أنتمى لهذه الجماعة فكريًا فى مرحلة عمرية مبكرة من حياتى، فقد كنت أقتنى كتب الغزالى والقرضاوى وسيد قطب ومحمد قطب ونديم الجسر وناصح علوان وأبو الأعلى المودودى والندوى وسعيد حوى ومحمد سعيد رمضان البوطى وأبوبكر الجزائرى وفتحى يكن وعباس السيسى وغيرهم.
وقد تعاطفت معهم من خلال ما كانت ترويه كتبهم من حكاوى عن التعذيب والتنكيل الذى وقع عليهم فى عهد عبد الناصر، مثل كتاب البوابة السوداء لأحمد رائف، ومذابح الإخوان لمحمد عبد القدوس، وقد كان حمزة البسيونى يمثل لى كابوسًا مخيفًا، وكنت أتصور معهم أن حادث المنشية الذى تعرض فيه عبد الناصر للاغتيال كان مفبركًا من جانبه بقصد إزاحتهم من طريقه حتى يخلو له وجه مصر دون غيره من بقية القوى السياسية الأخرى. وقد جرى تصحيح هذه المعلومة المغلوطة من خلال الصدفة البحتة التى دفعتنى إلى سماع المذياع بعد سنوات طويلة عشتها فى الوهم، فقد أقر أحد الإخوان القدامى فى اتصال تليفونى بأن الإخوان كانوا وراء محاولة الاغتيال الفاشلة.
وما دفعه إلى هذا الاعتراف سوى بلوغه من العمر عتيا، وأصبحت إحدى قدميه فى الدنيا والأخرى فى الآخرة.
وقد شاركت فى الدعاية لهم فى انتخابات مجلس الشعب عندما تحالفوا مع الوفد، ثم مع حزب العمل، وقد كان معروفًا فى حينه أن الوفد يمثل أقصى اليمين، وحزب العمل أحد أحزاب اليسار الذى كان يتبنى النهج الاشتراكى فى حينه، والمشروع الإسلامى الذى يمثله الإخوان كان من المفترض أن حزب الوفد هو العدو التاريخى للإخوان من ناحية، وحزب العمل المتبنى للفكر الاشتراكى باعتباره التوجه الناصرى هو الآخر عدو تاريخى من ناحية أخرى.
فكيف للمشروع الإسلامى أن يتحالف مع أعدائه؟. بالطبع كانت تقدم فى حينه تفسيرات مخدرة تريح النفس من قبيل أن دليل الرسول فى الهجرة كان كافرًا.
وقد كانت تستهوينا فى حينه تلك الشعارات البراقة التى تخلب اللب وتهيمن على الوجدان من قبيل أن الإسلام هو الحل، وأنه منهج حياة، وأن من يرغب فى الإسلام ويبتغيا العمل له لابد له من أن يتبنى هذا الاتجاه إدراكًا ووجدانًا ونزوعًا وحركة فى الحياة، وكل هذا حق لا مراء فيه، إلا أننا لم ندرك أن الدين يقدم باعتباره دعاية تسويقية لترويج أشخاص بعينهم فى تنظيم معين.
وقد كانت كل هذه الأمور محل أحاديث ونقاشات وتجاذب بيننا فى هذه السن الباكرة، التى كنا نبحث فيها كلا بطريقته عن القدوة السلوكية والفكرية ـ الرجل الحلم ـ التى نقتدى بها ونتغياها بلوغًا إلى أحلامنا.
اعلم أن هناك أصدقاء وإخوة قد انضموا إلى الإخوان وانضووا تحت لوائها سواء انتسابًا أو تعاطفًا أو حبًا، وظلت العلاقات بيننا على ما يرام، وأعلم أن من هؤلاء من تأثر باتجاهاتى فى حينه وكان يعتبرنى مثلاً له.
ولكن الفارق الوحيد بينى بينهم فى حينه أننى لم أنغلق على فكر بعينه، ولم أتقلب فى اتجاه بذاته، وكانت قراءاتى متنوعة وفى كل اتجاه، فى الأدب والسياسة والاقتصاد والقانون والفلسفة وعلم النفس والمنطق والتاريخ، وقد أتاح ذلك لى دون إخوانى الانفلات من الأسر، والتفكير خارج الصندوق فى الهواء الطلق دون وصاية من فكر معين أو اتجاه محدد.
ثم تفرقنا بحكم العمل وضرورات الحياة ومقتضيات العيش، وظلت العلاقة تحتفظ ببعض توهجها لبعض الوقت، ثم خفت التوهج وانزوى وأصبحت العلاقة مجرد ذكريات قديمة لأيام جميلة قد خلت. ثم جاء الإخوان إلى الحكم وتكشفت حقائق السلوك فأدركت البون الشاسع بين القول والعمل من بداية الاستفتاء على الدستور فى مارس 2011. يومها قلت لأحد أصدقائى فى العمل: اليوم وقف الإخوان تحت الشمس عرايا، ولم يبق لهم من ملابسهم سوى وريقة التوت التى تستر العورة لا أكثر. فإن لم يدركوا ذلك هلكوا، لأن تصرفاتهم أضحت تحت الميكروسكوب. فالمرء فى الظلام يختلف عنه تحت ضوء الشمس، وللأسف الشديد مارس الإخوان عكًا سياسيًا غير مسبوق، ولم يركبهم المشروع الإسلامى لينهضوا به، وإنما ركبوا المشروع الإسلامى لينهض بهم، فكان السقوط مروعًا. فهم قد سقطوا سياسيًا وأخلاقيًا قبل أن يسقطوا شعبيًا. وقد عاتبنى الأصدقاء القدامى والإخوة على ما يعتبرونه هجومًا منى على الإخوان، واعتبره دفاعًا عن الإسلام، لأننا تعلمنا أن الحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الحق فيعرف رجاله، وأنا أدعوهم إلى كلمة سواء خارج الصناديق والأفكار المعلبة التى ثبت فسادها.
وقفة مع النفس، ومراجعة المواقف والأفكار.
مقر جماعة الإخوان المسلمين