لا تعلو قيمة فى الوجود على قيمة الحياة التى وهبها الله للبشرية، بدليل أن الله، سبحانه وتعالى، جعل حرمتها أكثر من حرمة الكعبة، ومع ذلك ففى بلدنا الحياة تأتى فى مرتبة متأخرة للغاية، بل تكاد تكون معدومة القيمة، خاصة بالنسبة للطبقة الفقيرة التى تضطر آسفة للعلاج أو للانتقال للعلاج فى مستشفيات الحكومة. كنت دائم التفكير فى الاهتمام الزائد فى أمريكا وأوروبا بحياة الحيوانات، وقرأت كثيرا عن كلاب ورثت ثروات وأخرى أجريت لها جراحات عاجلة وقصص كثيرة لعل منها اهتمام الصحافة الإيطالية بقصة كلب نجا من على متن سفينة غرقت بمصر قبالة سواحل الإسكندرية منذ عدة أعوام.
وبالمتابعة، تبين لى أن هناك اهتماما رهيبا بالحياة، وأن الحكومات توفر مليارات الدولارات من أجل توفير مستشفيات محترمة للعلاج، بل إن المواطن القادر يدفع جزءا لا يستهان به من دخله من أجل العلاج.
لم أكن أدرك فى لحظات معينة سفر الآلاف من أبناء شعبنا للعلاج بالخارج، وسألت أحد الأصدقاء فقال: هو فى علاج فى مصر خاصة من الأمراض المزمنة؟! أدركت وقتها أن من يملك مالا فى بلادنا يمكن أن يعالج نفسه، أما من لا يملك- وهم الأغلبية الكاسحة من الشعب- فلا طريق أمامهم إلا المستشفيات الحكومية العامة أو المركزية أو المستشفيات الجامعية أملا فى العلاج.
الحقيقة أن مستشفيات المحروسة بحاجة إلى نظرة، فكما يقولون «الداخل مفقود والخارج مولود» بحاجة إلى نظرة فعلية من الحكومة من الأغنياء الذين يدفعون الملايين على الحفلات لابد أن يساهموا فى توفير أجهزة للمستشفيات خاصة أسرة العناية المركزة التى يعانى بلدنا من نقص رهيب فيها تماما مثل حضانات الأطفال.
هناك إهمال جسيم فى المستشفيات الحكومية، من يجد واسطة ربما يفلت من الموت، ومن لا يجد، إما ينتظر الموت ببطء أو يتم إسعافه بوجود سرير له فى العناية المركزة أو يبيع ما يملكه للانتقال إلى عناية مستشفى خاص.
أتساءل: هل مكتوب علينا فى بلادنا أن نموت هكذا ونترك يد الإهمال تغتالنا بدون حراك؟
هل كتب علينا الموت من الإهمال والاستهانة؟ هل من حقنا علاج آدمى فى مستشفيات الحكومة أم أن الذنب ذنبنا لأننا لا نملك المال للعلاج؟
سأسرد واقعتين. الأولى: لأم تدعى صابرين من مدينة القنطرة شرق بالإسماعيلية، أول مرة تنجب أجريت لها عملية الولادة بمستشفى القنطرة غرب المركزى وأصيبت بنزيف ونقلت للعلاج بمستشفى الإسماعيلية الجامعى، وهناك تم إنقاذها، ولكن بعد إزالة الرحم لم تنجب إلا بنتا صغيرة وحرمت من الأولاد مدى الحياة.
الحالة الثانية تدمى القلوب: فتاة حديثة الزواج أيضا من مدينة القنطرة شرق، تدعى إنعام، لم يجد زوجها المال لكى تلد فى مستشفى خاص، فنقلها للولادة فى مستشفى جامعة قناة السويس، هناك أنجبت عن طريق عملية قيصرية، وبعد الولادة أصيبت بنزيف فى المخ، كانت بحاجة إلى جهاز تنفس صناعى، ظلت الحالة على وضعها لعدم وجود سرير عناية مركزة، لم يفكر المستشفى فى نقلها لإسعافها فى مستشفى آخر سواء العام أو نقلها لمحافظة مجاورة، ظلت على حالها لمدة 10 أيام بعد الولادة، ويعلم الله سبب النزيف الذى أصاب مخها بعد الجراحة القيصرية، تلقيت اتصالا من والد زوجها يدعى محمد أبو زيد، طلب المساعدة فى توفير سرير عناية لها، أجريت اتصالات بجامعة قناة السويس إلا أنه بالفعل لم يكن لديها أسرة، اتصلت بالدكتور هشام الشناوى، وكيل وزارة الصحة بالإسماعيلية، الرجل المحترم وعدنى بتوفير سرير لسوء حالتها، وطلب تقريرا عاجلا من مستشفى الجامعة لعرضه على الأطباء فى المستشفى العام بالحالة، فى الوقت نفسه أجريت اتصالا بمستشفى الزقازيق الجامعى عن طريق الزميلة إيمان مهنا مراسلتنا فى الشرقية، والذى وافق على استقبال الحالة بشرط أن تسمح الظروف بنقلها من الإسماعيلية، كنت اتصلت أيضا بمحافظة بورسعيد عن طريق زميلنا محمد فرج، لكن لم تكن هناك أسرة عناية خالية، كل ذلك فى حوالى ساعة زمن، أخيرا الحمد لله سننقذ الأم ونوفر لها سريرا بعناية مركزة، وقبل أن تتم كتابة تقرير الحالة من مستشفى الإسماعيلية الجامعى توفيت الأم على سريرها بقسم الباطنة، وقع الخبر على رأسى كالصاعقة، تحجرت الدموع فى عينى، لهذه الدرجة الإنسان فى بلدنا بلا ثمن أو قيمة؟! صرخت فى وجه والد زوجها: «لقينا لها سرير فى الزقازيق سرير فى المستشفى العام.. ليه اتأخرتو؟» قال: «يا أستاذ قلنا إنها كويسة فى المستشفى».
نجحت محاولة إيجاد سرير، لكن قدر الله سبق وتوفيت، أم تركت طفلا عمره 10 أيام، وأب جريح مكلوم، وعلامات استفهام كلها تحمل معانى الإهمال فى إجراء جراحة الولادة للأم وتجاهل نقلها لمستشفى آخر لعدم وجود عناية مركزة فى الجامعة وتجاهل لآلام أسرة كاملة فقدت ابنتها وطفل بات يتيما دون أن ينطلق بكلمة ماما أو يعرف معنى الحنان، إنها تساؤلات تحتاج إلى تحقيق حقيقى من وزارة التعليم العالى ومن جامعة قناة السويس ومن محافظ الإسماعيلية فى محاولة للتبرؤ من ضياع روح إنسانة سنسأل عنها أمام الله، لأن الروح من أمر الله، وهى أسمى ما فى الحياة.
عبد الحليم سالم يكتب: الموت البطىء فى مستشفيات المحروسة
الإثنين، 30 ديسمبر 2013 06:27 ص