نقلاً عن اليومى..
الفن والإرهاب
يطرح التفجير الخسيس الذى استهدف مديرية أمن الدقهلية الثلاثاء الماضى 24 /12 /2013 عدة أسئلة بالغة الحيوية، وهى.. هل يمكن أن يقاوم الفن الإرهاب؟ ولماذا لم نكتو بناره الحارقة فى مصر إلا مع السبعينيات؟ وكيف وصل الأمر بنا إلى أن يقدم شاب مصرى على تفجير ذاته وقتل الآخرين، بزعم أنه يقتل الكفار ويتقرب إلى الله؟
سنبدأ من السؤال الثانى، حيث يعلم الجميع أن الرئيس السادات تحالف مع جماعة الإخوان ومشتقاتها من ذوى الأفكار المنغلقة، بهدف ضرب الحركتين الناصرية والاشتراكية فى الجامعة بشكل أساسى، ففتح لهم الباب للعمل والتواجد بقوة، بل والتحرش بالطلاب أصحاب الاهتمامات الفنية والاعتداء عليهم، وتحطيم المسارح الجامعية بزعم أن الفن حرام، وفى الوقت نفسه قام السادات بإغلاق عدة مجلات وصحف ذات توجهات فكرية وسياسية، تخاصم توجهات نظامه التى كانت انقلابًا بمعنى ما على نظام عبد الناصر وانحيازاته (مجلة الطليعة على سبيل المثال). فى ذلك الوقت أيضاً اضطر المصريون، للمرة الأولى فى تاريخهم، إلى السفر للعمل فى الخارج بحثاً عن الرزق، بعد أن ضاقت السبل فى زمن الرئيس المؤمن (كما كان السادات يحب أن يوصف بذلك، وكأن من قبله كان كافرًا والعياذ بالله)، وهكذا خرج الملايين من مصر إلى دول مجاورة، انفجرت فيها آبار البترول، وسالت الأموال بغير حساب، لكن بعض هذه الدول استقر فيها الفكر المتشدد الذى يلائم البيئة الصحراوية، والمصريون كما تعرف أبناء حضارة نهرية زراعية، وهى حضارة.. لينة.. مرنة.. متسامحة مثل الزرع الأخضر.. مستقرة كنهر النيل.. تسمح للمرء بالتأمل والابتكار وممارسة الفنون بأنواعها كافة، ولنا فى ما تركه المصريون القدماء من معابد وتماثيل ولوحات وأفكار وعلوم أسوة حسنة!
أما صاحب الفكر المنغلق ابن البيئة الصحراوية، فغالبًا ما يكون فظاً غليظ القلب.. لا يحتمل الفكر الآخر ولا يطيقه، متقلب المزاج، ففى لحظة يصبح مثل نسمة ليل طرية، وفى اللحظة التى تليها يتحول إلى شمس حارقة بلا قلب.. يتعامل مع المرأة باحتقار فى أفضل الحالات، وهكذا تأثر المصريون قليلو الوعى بالمناخ الصحراوى الذى اضطروا للعمل فيه، فتسللت إلى أذهانهم المحدودة الآراء البائسة التى تخاصم الآخر وتلعنه، وتستبيح دمه عند الاختلاف بزعم أن هذا هو الإسلام الصحيح، ثم عادوا إلى مصر وقد حشوا رؤوسهم بأردأ الأفكار وأكثرها تخلفاً، وأسهم السادات ومن بعده حسنى مبارك فى السماح لهؤلاء بالانتشار وترويج بضاعتهم الفاسدة، فصار حضورهم قويًا مع مرور الأيام، فأطلقت اللحى وطالت، وتغيرت ملابس النساء، فاختفى شعر المرأة فى البداية، ثم اختفى وجهها فى النهاية، وباتت الآراء المشبوهة تجارة يتربح منها أصحاب شركات إنتاج الكاسيت والفضائيات، حيث أصبحنا نرى (نجوم التخلف) يحرّمون الفنون ويهددون بهدم الهرم (لأنه من الأوثان)، بينما تلاميذهم يقتلون السادات نفسه.
إن جذور الإرهاب لا يمكن اقتلاعها إلا بتحقيق قدر معقول من العدل الاجتماعى، وتحديث مناهج التعليم، وتوفير الأجواء الملائمة لازدهار الفنون المختلفة، وهذه الأمور كلها أهملها عن عمد السادات ومبارك، فتقهقرت مصر خلال أربعين سنة إلى الوراء قروناً عدة، وهو أمر مؤسف بلا ريب!
بقى لك فى ذمتى سؤالان طرحتهما فى بداية المقال ولم أجب عنهما.. اصبر علىّ قليلاً، لنكمل مناقشة قضية الفن والإرهاب فى الأسبوع المقبل!
نجيب محفوظ والسينما «3 - 3»
فى الحلقة الثالثة والأخيرة من علاقة محفوظ بالسينما يستوقفنا أمران: الأول ما طبيعة علاقة الرجل بالسينما فى فترة السبعينيات من القرن الماضى، وهى فترة ضاجة بالأحداث العنيفة والمفاجآت الغريبة والانقلابات السياسية الحادة (تذكر الآتى: حرب أكتوبر 1973/ الانفتاح 1974/ انتفاضة يناير 1977/ سفر السادات إلى إسرائيل 1977/ اتفاقية كامب ديفيد 1978/ معاهدة السلام 1979/ مصرع السادات 1981)، أما الأمر الثانى فهو كيف تعاملت السينما مع محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل فى الأدب (أكتوبر 1988)؟
يبقى فى الأخير ضرورة الإشارة إلى أن هذه الحلقات الثلاث لم ولا تكفى الإحاطة بمنجز نجيب محفوظ السينمائى، لأنه أغزر وأشمل، لكننا حاولنا، قدر الطاقة، أن نطل سريعا على عالمه الشاسع بمناسبة مرور 102 عام على مولده.
الطريق
للمرة الأولى تصدر رواية لمحفوظ فتهرع السينما إليها وتنتجها فى العام نفسه، إنها روايته الجميلة (الطريق) التى أخرجها حسام الدين مصطفى وعرضت على الشاشة فى 14 ديسمبر 1964، حيث كتب اسم نجيب قبل أسماء نجوم الفيلم، وهم من المشاهير الكبار مثل شادية وسعاد حسنى ورشدى أباظة وتحية كاريوكا، الأمر الذى يؤكد أن قامته الأدبية كانت فى ارتفاع وعلو فى ذاك الزمن، وبرغم الجانب الفلسفى العميق الذى تطرحه الرواية، وهو شقاء الإنسان فى رحلة البحث عن المثل الأعلى أو المطلق، فإن الفيلم لم يشتبك مع ذلك الجانب الرئيسى فى الرواية، واكتفى برصد عذاب البطل فى رحلة البحث عن أبيه، وما واجهه من علاقة غرامية رائقة أو مشبوهة.
خان الخليلى والقاهرة 30
بعد مرور عشرين سنة على صدور رواية (خان الخليلى فى 1946)، ها هى السينما تسعى إليها، فيقدمها عاطف سالم فى فيلم بالاسم نفسه يعرض فى 12 يناير 1966، فما الداعى لذلك؟ هل بات اسم نجيب على أفيشات الفيلم جالبا للجمهور والمال؟ أم أن الحنين إلى قاهرة الأربعينيات داعب سكان قاهرة الستينيات؟ أم أن حبكة الرواية بها ما يخاطب الذوق العام لرواد السينما فى ذلك الوقت؟
الأمر نفسه حدث مع رواية (القاهرة الجديدة/ صدرت فى عام 1945)، بينما حققها المخرج صلاح أبوسيف للسينما باسم (القاهرة 30) وشاهدها الجمهور فى 31 أكتوبر 1966، أى بعد 21 عاما من صدورها، فماذا حدث حتى تلتفت السينما إلى روايات الرجل؟
على أية حال حقق (القاهرة 30) نجاحا باهرا ومازال، وبالمناسبة صدرت الرواية فى الطبعة الأولى باسم (فضيحة فى القاهرة)، ثم قام محفوظ بتغيير الاسم إلى القاهرة الجديدة، وحولها أبوسيف إلى القاهرة 30، حيث تألق حمدى أحمد فى دور محفوظ عبدالدايم، وكذلك الفنان عبدالعزيز ميكوى فى دور على طه. وأذكر أننى التقيت صلاح أبوسيف مرة فى معرض الكتاب عام 1993، وسألته (لماذا يا أستاذ وضعت أغنية عبدالوهاب «القلب يا ما انتظر» فى خلفية المشهد الذى جمع سعاد حسنى وحمدى أحمد ليلة قرانهما، حيث ساد صمت عميق بين العروسين وهما جالسان فى الشرفة، بينما ظل عبدالوهاب يصدح لمدة ثلاث دقائق تقريبا «وليه يا روحى تحب نوحي.. وليه يا روحى طول الغياب»؟).. آنذاك ابتسم الأستاذ صلاح وقال لى: (الموقف محرج جدا كما تعلم، ولم أجدا حلا سوى أن أضع أغنية شجية مثل هذه خاصة أننى أحبها كثيرا).
السمان والخريف وقصر الشوق
شهد عام 1967 عرض فيلمين عن روايتين لمحفوظ، الأولى (السمان والخريف) التى صدرت فى 1962، فى حين حققها للسينما المخرج حسام الدين مصطفى وعرضت فى 13 فبراير 1967، وقد استقر اسم محفوظ على الشاشة بوصفه كاتبا كبيرا يكتب بخط عريض وقبل أسماء النجوم، ويبدو أن الفيلم لم يكن على مستوى الرواية، برغم وجود ممثل عظيم مثل محمود مرسى على رأس نجومه، لذا لم يحقق نجاحا كبيرا آنذاك، ولا عند عرضه الآن على شاشة الفضائيات، أما الفيلم الثانى فهو (قصر الشوق/ عرض فى 31 ديسمبر 1967) وحسنا فعل مخرجه حسن الإمام حين وضع أغلفة الأجزاء الثلاثة من الثلاثية فى بداية التترات، وهى المرة الأولى حسب علمى التى يوضع فيها غلاف الكتاب المطبوع بدلا من اللجوء لخطاط يكتب اسم الفيلم. وإذا كان السمان والخريف لم يحقق النجاح المأمول نظرا للتشويش الفنى الذى أصاب الفيلم بعطب لا يخطئه المشاهد العادى، فإن قصر الشوق قد حقق نجاحا لافتا، بدا فى ترسخ شخصية السيد عبدالجواد فى الوجدان الشعبى المصرى، وأذكر أننى نشرت حوارا حين كنت أدير تحرير مجلة (دبى الثقافية) أجراه ناقدنا الكبير كمال رمزى مع الفنان المتفرد محمود مرسى حول شخصية السيد عبدالجواد التى أداها مرسى فى مسلسل تلفزيونى، أذكر أن الفنان الكبير أقر بأن يحيى شاهين كان أكثر براعة منه فى تجسيد الشخصية، إذ قال بذكاء وتواضع: (إن دور سى السيد كان يبحث عن يحيى شاهين، بينما كنت أنا أبحث عن الدور)!
أفلام بالجملة!
ربما تكون المجاملة هى التى دفعت محفوظ إلى أن يقوم بإعداد قصة فيلم (شىء من العذاب) للسينما، وهى القصة التى كتبها أحمد رجب، إذ كان الرجل فى ذلك الوقت (عرض الفيلم فى 22 سبتمبر 1969) يتمتع بالحسنيين.. مكانة أدبية مرموقة ومجد وظيفى مستقر (كان وكيل وزارة الثقافة)، وبالتالى لم يكن فى حاجة إلى العودة إلى إعداد القصص للسينما ليتربح، لذا أظن أن مجاملة صديقه صلاح أبوسيف مخرج الفيلم هى التى حرضته على فعل ذلك.
فى 13 أكتوبر 1969 عرض فيلم ميرامار المأخوذ عن رواية لنجيب صدرت فى 1967، وقد بذل مخرج الفيلم كمال الشيخ مجهودا كبيرا ليبدو الفيلم فى أبهى صورة، وقد وفق لا ريب فى ذلك، لكن ستظل لرواية ميرامار طعمها الخاص من حيث البناء والتكنيك والحس اللاذع!
وكعادة الأستاذ نجيب نفاجأ باسمه مكتوبا فى مقدمة فيلم (بئر الحرمان/ عرض 29 ديسمبر 1969)، وهى رواية لإحسان عبدالقدوس، بوصفه من تولى إعدادها للسينما! ثم يكتب اسمه فى فيلم (دلال المصرية/ عرض فى 3 نوفمبر 1970) باعتباره من اقتبس قصة البعث لتولستوى، بينما تولى حسن الإمام إخراج الفيلم وكتابة السيناريو!
ثم تنهمر الأفلام عن رواياته، من أول (السراب/ صدرت عام 1948) وأخرجها أنور الشناوى ليعرض الفيلم فى 28 ديسمبر 1970، وهو فيلم بائس بكل أسف، برغم عمق الرواية ومتانة الحبكة، ثم فيلم (الاختيار/ عرض فى 15 مارس 1971) الذى كتب قصته مع يوسف شاهين، وبالمناسبة فقد أدان محفوظ فى حواره الطويل مع رجاء النقاش يوسف شاهين واعتبره منفصلا عن الجماهير نظرا لغموض أفلامه! وفى 15 نوفمبر 1971 عرض فيلم (ثرثرة فوق النيل/ صدرت الرواية فى 1966)، فحقق نجاحا لا بأس به نظرا لأجواء الحشاشين وقفشاتهم التى اعتنى بها حسين كمال مخرج الفيلم أكثر من اهتمامه بمضمون الرواية الفاتنة، وأعد محفوظ قصة إحسان (إمبراطورية ميم/ عرض فى 1972)، وكتب قصة فيلم (ذات الوجهين/ 14 يناير 1973)، وهو فيلم متواضع بكل المقاييس، ثم تصدر غلاف روايته (السكرية) عناوين الفيلم الذى عرض فى يوم عرض ذات الوجهين!
فى نحو خمس عشرة سنة (من منتصف السبعينيات حتى نهاية الثمانينيات) استضافت السينما روايات أديبنا الكبير بكثافة، فعرضت له (الحب تحت المطر)، (الكرنك)، (الشيطان يعظ)، ثم سطا المنتجون والمخرجون على رائعته الخرافية (الحرافيش) ومزقوها إلى عدة أفلام تعيسة مثل (شهد الملكة)، (الحرافيش)، (المطارد)، إذ لم ينجح أى مخرج، للأسف الشديد، فى استخراج الذهب الفنى الكامن فى هذا المنجم الروائى الخالد وأعنى (الحرافيش)!
على أية حال.. لن نستطيع أن نتوقف طويلا عند هذه الأفلام نظرا لضيق المساحة من ناحية، ولركاكتها من ناحية أخرى، لكن يصح القول إن السينما أسهمت لا ريب فى ترويج اسم نجيب شعبيا، ومن يريد الاستزادة من عبقريته الروائية عليه العودة إلى الأصل. بقى أن نشير إلى أن السينما لم تقترب من بعض رواياته المهمة مثل (حضرة المحترم)، و(قشتمر) وليس عندى تفسير لذلك، لكن تبقى علاقة صاحب نوبل بالسينما بالغة الثراء وفى حاجة إلى مزيد من القراءة والتحليل، فعسى أن نفعل ذلك يوما ما.
الخمر فى الأغنية المصرية
مع احتفالات العالم برأس السنة الجديدة، ومع رغبة الشعوب فى حياة أكثر بهجة وسرورا، ستقام الأمسيات والليالى ويحلو الغناء والرقص، وتعلو الإيقاعات وتصدح الموسيقى، وستملأ الكؤوس بالخمر، لتنتشى بتناولها الملايين.. فى كل مكان فى العالم تقريبا سيصبح للخمر شأن فى ليلة رأس السنة الجديدة، فماذا عن الخمر فى الأغنية المصرية؟ وكيف تقبل المصريون مفردات مثل الخمر والسكر والكأس تتردد فى أغنيات عديدة بشكل راق ورقيق لا ابتذال فيه، خاصة بعد ثورة 1919، وما تلاها من عقود، بحسبان أن الخمر تؤدى إلى النشوة الصافية؟ وكيف كان يمتدحها عبدالوهاب ويغنى لها فرحا فيتلقى الجمهور هذه الأغنية بافتتان، ويرددها فى مجالسه؟ وكيف كانت أم كلثوم لا تستحى أن تترنم طالبة (اسقنى واشرب على أطلاله) فى قصيدتها الموفورة الصيت (الأطلال/ 1965)، فيهلل لها المستمعون وتسمو أرواحهم، ولا يعدون أم كلثوم قد تجاوزت الحدود أو حادت عن المألوف حتى حين تهتف سائلة (هل رأى الحب سُكارى مثلنا؟).
هيا نتجول سريعا فى تراثنا الغنائى لنعرف كيف تضافرت الخمر مع الموسيقى والصوت الشجى فى مقطوعات فنية بالغة العذوبة والجمال.
هاتها يا ساقى
فى البداية علينا التأكيد على أن الشعر العربى تغنى بالخمر واحتفل بها، وهناك غرض من أغراض الشعر خصصه النقاد والباحثون للخمر مثل المديح والغزل والرثاء، ولعل الشاعر العباسى أبا نواس (مولود فى 762 ميلادية) أشهر من امتدح الخمر واحتفى بها فى شعره.. اقرأ معى هذه الأبيات البديعة لأبى نواس:
لا تبك ليلى ولا تبك إلى هنـــــــــــــــد
واشرب على الورد من حمراء كالورد
كأسًا إذا انحدرت فى حلق شاربـــــــها
أجدته حمرتها فى العيـــن والخـــــــــد
فالخمر ياقوتة والكأس لؤلــــــــــــــؤة
من كف جارية ممشوقة القـــــــــــــــد
أما أمير الشعراء أحمد شوقى (1868/ 1932) فيقول بجرأة وصراحة تقبلها المصريون بصدور رحبة بعد ثورة 1919:
رمضان ولى هاتها يا ساقى
مشتاقة تسعى إلــى مشتــاق
أما عبدالوهاب فيمتعنا بأدائه الباذخ فى أغنية (النيل نجاشى/ 1933) التى كتبها شوقى باللهجة العامية، إذ يقول: (جت الفلوكة والملاح ونزلنا وركبنا/ حمامة بيضا بفرد جناح تودينا وتجيبنا/ ودارت الألحان والراح وسمعنا وشربنا)، والراح هى الخمر! وفى (بلبل حيران/ 1928) التى أبدعها شوقى بالعامية المصرية يغنى عبدالوهاب واصفا بصوته العذب حيرة البلبل فى الحديقة (سكران بغير الكاس فى مجلس الورد/ من عنبر الأنفاس ومنظر الخد/ يبص فوقه ويبص تحته/ يمد طوقه يشم ريحته)! ويقول فى (جفنه علم الغزل/ 1933) التى كتبها بشارة الخورى (هاتها من يد الرضا جرعة تبعث الجنون/ كيف يشكو من الظمأ من له هذه العيون؟).
ثم يشدو عبدالوهاب بتحفته الخالدة (الجندول/ 1941) التى كتبها الشاعر على محمود طه، فيصف برقة أين وكيف التقى الحبيب: (بين كأس يتشهى الكرم خمره/ وحبيب يتمنى الكأس ثغره/ التقت عينى به أول مرة/ فعرفت الحب من أول نظرة)، ثم ينشد فى مقطع آخر من الأغنية نفسها (مرّ بى مُستضحكاً فى قرب ساقى/ يمزج الراح بأقداح رقاق).
حانة الأقدار
هل تعلم أن لأم كلثوم أغنية ساحرة اسمها (حانة الأقدار/ 1955)، والحانة كما تعلم هى الخمارة، والأغنية عبارة عن قصيدة رائعة كتبها طاهر أبوفاشا ولحنها محمد الموجى، وتنتشر فيها مفردات الخمر والسكر والساقى بشكل كبير، وإن كانت بمنطق صوفى، ومع ذلك حين تنصت إليها تعتريك حالة من النشوة الفنية الناصعة والرائقة، وفى قصيدتها الخالدة (قصة الأمس/ 1958) للشاعر أحمد فتحى، تعلن أم كلثوم بلوعة (يسهر المصباح والأقداح والذكرى معى/ وعيون الليل يخبو نورها فى أضلعى)، والقدح كما تعلم وعاء يُصب فيه الخمر، وفى رائعتها (هذه ليلتى/ 1969) التى كتبها الشاعر السورى جورج جرداق تصدح بهذه الأبيات (هلّ فى ليلتى خيال الندامى/ والنواسى عانق الخيام/ وتساقوا من خاطرى الأحلام/ وأحبوا وأسكروا الأيام)!
حتى أسمهان كان لها نصيب مع الخمر والكأس، فلها أغنية شهيرة اسمها (أسقنيها بأبى أنت وأمى)، حيث تردد فيها بنشوة (املأ الكأس ابتساما وغراما/ فلقد نام الندامى والخزامى)!
أما عبدالحليم فيغنى فى أوبريت (لحن الوفاء/ 1955) فى الفيلم الذى يحمل الاسم نفسه قائلا (اسقينى واشرب معايا/ وارحمنى من ذكرياتى/ نسينى لوعة أسايا/ جدد لى نشوة حياتى)!
فى حين أن فايزة أحمد تغنى فى (رسالة من امرأة حاقدة) التى كتبها الشاعر نزار قبانى صارخة: (وسترفع الكأس التى جرعتنى/ كأسا بها سممتنى)!
هذه بعض الأغنيات التى تناولت الخمر وذكرت الكأس والسُكر والقدح والندامى، ولولا ضيق المساحة لذكرت لك غيرها الكثير، فقد تعامل المصريون مع الخمر ونشوتها بروح سمحة، وعقول تدرك أن الحياة تتسع لكل شىء، وأن الجدية والدأب والمثابرة فى العمل لا تخاصم البحث عن المرح ومعانقة النشوة والطرب!
محاكمة فريد الأطرش!
ماذا بقى من فريد الأطرش بعد 39 عامًا على رحيله وأكثر من 113 سنة على مولده (تؤكد كل المصادر أنه من مواليد عام 1910)؟
هل موسيقاه وأغنياته مازالت تسحر الألباب وتطرب الأرواح كما كانت فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى؟ والسؤال الأهم: هل ترك لنا فريد الأطرش مدرسة موسيقية سار على نهجها تلاميذ من بعده فقاموا بتطويرها مثلما فعل سيد درويش وعبدالوهاب؟ أم أنه كان مثل وردة وحيدة فاح عطرها لحظات ثم ذبلت وماتت؟
تعالوا نغُص سريعاً فى بحر هذا الفنان العربى السورى المصرى، لنعرف ما أضافه للموسيقى والغناء والسينما قبل أن نطلق عليه الأحكام بالسلب أم بالإيجاب..
البداية من مصر
أظنك تعرف أن فريد جاء إلى القاهرة صبيًّا مع أسرته عام 1923 هربًا من الصراعات التى كانت تدور فى جبل الدروز فى مدينة السويداء بسوريا، والدروز بالمناسبة طائفة دينية من ضمن طوائف الشيعة، فى ذلك العام كانت مصر قد قطعت خطواتها الأولى نحو اكتشاف ذاتها، وتحقيق طموحها فى بناء دولة عصرية حديثة، فقد أشعل الشعب ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزى، وأسس طلعت حرب بنك مصر فى 1920 ليصبح أول بنك برأس مال مصرى صرف، ثم خرجت مصر من كهف السلطنة وهو رمز العصور الوسطى لتدخل قصر الملكية بإعلان استقلال مصر واعتبارها مملكة سنة 1922، كذلك كتب المصريون فى عام 1923 أول دستور فى تاريخهم الحديث، ومن عجب أن أم كلثوم هجرت الريف واستقرت بالقاهرة فى ذلك العام نفسه، كما أسس يوسف وهبى فرقة رمسيس على الطراز المسرحى الحديث فى مطلع هذا العام الاستثنائى.
كازينو بديعة والسينما
بعد سلسلة من المعاناة اليومية فى القاهرة بحثا عن لقمة العيش، عرف فريد طريقه إلى كازينو بديعة مصابنى، هذه السيدة اللبنانية التى أنشأت هذا الكازينو فى نهايات العشرينيات (موقع شيراتون القاهرة الآن)، ليصبح (مدرسة فنية) التحق بها كل مطربى وملحنى ذلك الزمان تقريباً باستثناء عبدالوهاب، مثل محمد عبدالمطلب، محمد فوزى، عبدالعزيز محمود، كارم محمود، إبراهيم حمودة، شكوكو، إسماعيل ياسين، وغيرهم، والراقصات تحية كاريوكا، وسامية جمال، وببا عز الدين، هذا الانغماس فى كازينو بديعة طبع موسيقى فريد بنغمات راقصة طوال الوقت، بغض النظر عن طبيعة الكلمات التى يؤديها، حتى لو كانت الأغنية تدور فى فلك حزين!
فى سنة 1934 عرف فريد طريقه إلى الإذاعة المصرية من خلال أغنيته (يا ريتنى طير لأطير حواليك)، التى حققت نجاحًا لا بأس به، لكن فى ذلك الوقت كان عبدالوهاب سيد الغناء بلا منازع، وقد عرف طريقه إلى السينما قبل ذلك بعام حين قدم فيلم (الوردة البيضاء)، وكانت أم كلثوم تجلس على عرش الطرب راضية مرضية، لذا مرّ صوت فريد مرور الكرام بلا ضجة ولا تهويل، لكن حضوره تأكد مع مطلع الأربعينيات حين عرض أول أفلامه (انتصار الشباب) مع شقيقته أسمهان للمخرج أحمد بدرخان فى 24 مارس 1941، وقد حقق هذا الفيلم نجاحاً كبيراً، وسرعان ما انهمرت أفلامه بعد ذلك.
اللافت للانتباه أن فريد قدم أكثر من عشرين فيلماً فى أقل من 15 عامًا من مجموع أفلامه كلها البالغ عددها 31 فيلماً، ويمكن القول، إنها لاقت صدى طيبًا لدى الملايين من المصريين والعرب، وأغلب الظن أن المزاج الحزين لموسيقى وصوت فريد هو الذى توافق مع مزاج المصريين آنذاك، فحقبة الأربعينيات احتشدت بأحداث عديدة تفجر طاقات الحزن لدى الناس، فالحرب العالمية الثانية وغاراتها المخيفة، وارتفاع الأسعار، وصراعات الأحزاب، وانشقاق الوفد، وألاعيب الإنجليز، واستهتار الملك فاروق بشعبه، وانطفاء الحلم فى التخلص من الاحتلال.. كل ذلك أدى إلى أن يعترى الملايين شعور بالحزن والاكتئاب، علاوة على أن الجمهور العام تعاطف مع فريد الأطرش بعد مصرع شقيقته أسمهان فى ظروف غامضة عام 1944، فتلقى أغنياته الحزينة وصوته الباكى بتقدير مخلوط بإعجاب وشفقة!
فريد الممثل والمطرب
مع اندلاع ثورة 23 يوليو 1952 واستعادة المصريين لروح الأمل فى غد أفضل، ومع إزاحة غبار الأحزان عن كاهل الجماهير بالتفافها حول عبدالناصر وقراراته الاجتماعية التى حاولت إنصاف الفقراء، تراجعت مكانة فريد عند الناس، خاصة أن المطرب الجديد عبدالحليم حافظ خطف قلوب ومشاعر الشباب الجديد بإحساسه المرهف وإيقاعه الحديث الذى يلائم مصر بعد الثورة، لذا لا عجب ولا غرابة فى أن تتراجع أفلام فريد الأطرش فيقل عددها ولا تحقق النجاحات التى صنعها فيما سبق، خاصة أنه لم يكن ممثلاً بارعًا على الإطلاق، بل يمكن القول، إنه ممثل سيئ، كما وصفه مرة يوسف شاهين، لكن يحسب له أن أفلامه ضمت كوكبة معتبرة من نجوم التمثيل الرواد أمثال حسن فايق، وعبدالفتاح القصرى، وعبدالسلام النابلسى، وحسين رياض، وسراج منير، وإستيفان روستى، ومحمود المليجى، وإسماعيل ياسين، وزينات صدقى، وفاتن حمامة، ومديحة يسرى، وماجدة، ورشدى أباظة، وغيرهم كثير.
كما يمكن القول إنه قدم مجموعة من الأوبريتات فى السينما صارت من كلاسيكيات الموسيقى والغناء مثل (بساط الريح)، لكنه توقف عن تقديم الأوبريت بعد ثورة يوليو واستقرارها، لأن الذوق العام الذى تشكل فى الخمسينيات والستينيات كان قد تجاوز هذا الفن (تذكر من فضلك أن عبدالحليم حافظ لم يقدم سوى أوبريت وحيد فى أول أفلامه لحن الوفاء عام 1955).
أما بالنسبة لصوته وأدائه، فقد امتلك فريد صوتًا قويًّا حلو النبرات واضح الحروف، لكن مشكلته تكمن- كما قال لى مرة الناقد الموسيقى اللبنانى إلياس سحاب- فى أنه لم يحفظ القرآن فى كتّاب مثل أم كلثوم وعبدالوهاب، ولم يتعلم تلاوته، فقراءة القرآن تدرب المرء على ضبط النَفَس (شهيق وزفير) ومخارج الحروف، ومتى يطيل ومتى يُدغم ومتى يقصر، وكلها أمور غابت عن فريد، لذا تجده يطيل فى حروف ينبغى فيها التقصير، والعكس صحيح، الأمر الذى جعله لا ينجح إطلاقاً فى تلحين القصائد وغنائها مثل عبدالوهاب أو السنباطى.
مدرسة فريد.. الميتة!
للأسف الشديد لم يطور فريد موسيقاه برغم موهبته الأصيلة، كما أنه لم يصقل تلك الموهبة بالدأب والتحصيل والدرس، فظل يدور ويلف أربعين سنة حول التيمات الموسيقية التى ابتكرها فى بداياته، وأذكر أن المرحوم الناقد الكبير رجاء النقاش قال لى مرة: (إن فريد كان رجلاً كريمًا، وكانت شقته بالدقى مفتوحة ليل نهار يستقبل فيها الأصدقاء والفنانين والصحفيين والمنافقين والانتهازيين، ليسهروا الليل كله، ثم يظل نائمًا طوال النهار).
لعل هذا من الأسباب الرئيسية المهمة التى جعلت فريد يأتى إلى عالم الموسيقى والغناء ويمضى دون أن يترك مدرسة أو جيلا يستلهم موسيقاه ويطورها، بعكس عبدالوهاب الذى طرحت شجرته الموسيقية الوارفة غصونًا كثيرة متنوعة مثل كمال الطويل ومحمد الموجى وبليغ حمدى.
حسناً.. إذا كان كل ما ذكرته صحيحاً، وأظنه كذلك، فماذا بقى من فريد الأطرش ونحن نتذكره الآن بمناسبة ذكرى رحيله (غاب عن عالمنا فى 26 ديسمبر 1974)؟
بقيت أفلامه الأولى باعتبارها وثيقة تاريخية فنية على زمن وعصر وإيقاع، وبقيت بعض أغنياته القليلة التى تجد لها صدى لدى أجيال تجاوزت الخمسين والستين عامًا الآن من باب الحنين، لكنه قد لا يذكر حين تأتى سيرة أبرز الفنانين فى الموسيقى العربية فى القرن العشرين!
همفرى بوجارت أفضل ممثل فى تاريخ السينما الأمريكية
فى ظنى أنه من المستحيل فهم تاريخ السينما المصرية بدون الالتفات إلى مدى تأثرها بالسينما العالمية، وتحديدًا الأمريكية، فقد حرص صناع السينما عندنا من مخرجين ومنتجين على متابعة ما تقدمه هوليود من أفلام، ثم يقومون بمحاكاتها وتقليدها، بعضهم يتقن التقليد فيحقق أفلامًا ناجحة ومهمة، ومعظمهم يخفق فيتسم إنتاجه بالركاكة والضعف، أما القليل جدًا فهو من يسعى بجدية إلى الخروج من أسر هوليود!
لم يتوقف أمر التقليد على الحبكة وطبيعة السيناريو فحسب، بل تجاوزه إلى أن نجومنا يتطلعون إلى نجومهم، فيقلدونهم فى طريقة الأداء ويلبسون مثلهم، ويصففون شعورهم كما يفعل النجوم الأجانب، ويشذبون شواربهم بالأسلوب نفسه الذى يظهر به الممثل الأمريكى «أنور وجدى ورشدى أباظة يقلدان روبرت تايلور فى مسألة الشارب هذه على سبيل المثال».
فى 14 يناير 1957 غاب عن دنيانا النجم الأمريكى همفرى بوجارت وهو لم يكمل عامه الثامن والخمسين بعد «هو من مواليد 25 ديسمبر 1899»، وقد اختار معهد الفيلم الأمريكى هذا النجم بوصفه أفضل ممثل فى تاريخ السينما الأمريكية فى الفعاليات التى أقامها عام 1999.
حين تشاهد ملامح الرجل وطريقة أدائه ستشعر على الفور أنه قريب من مشاعرك، وأنك تعرفه، أو رأيته من قبل، ثم ستكتشف سريعًا أنه يشبه النجم المصرى محسن سرحان إلى حد معقول، ثم تلاحظ أن طريقة أداء همفرى بوجارت، خاصة فى فيلمه المدهش «كازابلانكا/ 1942» تتشابه مع أداء محسن سرحان مرة، وأحمد مظهر مرة أخرى، وربما محمود مرسى مرة ثالثة! فالنجم الأمريكى موفور الصيت يتسم بأداء رصين.. فهو رجل واضح القسمات.. جبين عريض ونظرات حزينة.. مقتصد فى التعبير عن مشاعره.. لا يغضب بسهولة.. صوته هادئ وجسده متناسق.
فى «كازابلانكا» يكشف همفرى بوجارت عن عاشق مفتون هجرته حبيبته فى باريس أثناء الحرب العالمية الثانية، ليكتشف بعد ذلك، وهو يدير ملهى ليليًا فى «كازابلانكا/ الدار البيضاء» بالمغرب، أن هذه الحبيبة زوجة لمناضل سياسى يحشد الشعوب ضد هتلر، وقد حضرا إلى المغرب ليهربا إلى أمريكا، فيدوس على قلبه ويقرر معاونتهما.
فى مشاهد بليغة وسريعة.. يعبر نجمنا عن أدق المشاعر الإنسانية بأبسط التعبيرات وأعمقها، ومن عجب أنه لم ينل جائزة الأوسكار عن هذا الفيلم، بل حصل عليها عن فيلمه «الملكة الأفريقية/ 1951».
ليتك تشاهد أفلام همفرى بوجارت لتستمتع وتتأكد مما أقول!!
عطر الأحباب .. نجيب محفوظ والسينما «3 - 3» .. الخمر فى الأغنية المصرية .. الفن والإرهاب .. محاكمة فريد الأطرش! .. همفرى بوجارت أفضل ممثل فى تاريخ السينما الأمريكية
الجمعة، 27 ديسمبر 2013 10:42 ص
نجيب محفوظ
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري مغترب
سمك لبن تمر سوس
عدد الردود 0
بواسطة:
نقيب ناصر
حكم بلا شهود