فى بدايات ثورة يناير نشرت يوم 25 فبراير 2011 فى «اليوم السابع» مقالاً بعنوان «سماسرة الثورة».. ولم أكن أتخيل وقتها الحجم الهائل لهؤلاء السماسرة، وبعض الأسماء التى برزت مؤخراً تؤكد ما جاء فى هذا المقال.. ومن المحزن أن شعبنا الطيب الغلبان فى عتمة هذه الشبورة غير قادر على الفرز، وفى ذلك المقال وصفت السمسار الثورى بإنه «المثقف» النطاط الذى لا يستقر على مبدأ أو موقف، ولا يعرف الخجل.. كنت – وما زلت – أرى هذا النوع من «المثقفين» كنوع من السماسرة، فالسمسار يسعى بكل وسيلة للترويج لسلعة حتى وإن كانت فاسدة، وهو وسيط كل ما يهمه هو أن يحصل على «عمولته» أو «عمالته» من الطرفين، والقواد يلعب هذا الدور أيضاً حين يتوسط فى بيع «الشرف».
وخاطبت شباب الوطن قائلاً لهم: «أيها الأبناء.. خطوة صغيرة للخلف كى تتأملوا المشهد كله، وتتضح لكم محافل السماسرة، تاريخهم مسطور عبر السنين مهما حاولوا اليوم محوه واخفاءه.. خطوة للخلف كى تقرأوا من زيفوا وعى الناس، وسجدوا للسلطان كى يلقى لهم بكيس عمولتهم أو عمالتهم.. أنتم أذكى من أن تسقطوا فى نفس الحفرة التى سقط فيها آباؤكم.. وأرجو من شبابنا الطاهرين ألا يستمعوا لصوت الحكمة المزعومة من شفتين اكتهلتا.. تباً لخيول العجز وأبقار الزمن الماضى وقرود السلطان.. تباً لسماسرة العهد الماضى والحاضر والمستقبل.. تباً لبائعى الخوف والخنوع فى أسواق العبيد»، قلت فى نفس المقال: لقد تفتحت الزهور فى ميدان التحرير، فانتشر الشذى بطول مصر وعرضها، إلا أن تلك الزهور الذكية تحتاج أيضاً إلى أن تشرع أشواكها كى لا تقطف قبل أوانها، وهى مهمة ثقيلة ولكنها ضرورية، لأن النقاء الثورى يشبه لحظة تطهر لا تدوم طويلاً، وحين ينصب سوق الصفقات السياسية سوف يسارع السماسرة المحترفون كى يروجوا لأسوأ بضاعة وأرخصها، وهم يجيدون ذلك، وقد فعلوه كثيراً، ويكفى النظر إلى تاريخنا الحديث كى ندرك هذه الحقيقة.
تذكرت كل ذلك وأنا أتابع مزادات سماسرة الثورة التى تنعقد كل مساء على الفضائيات، وفى قاعات مؤتمرات «البوربون» الذين عادوا من جحورهم كى يمتشقوا حسام الثورة الخشبى ويكتشفوا جيناتهم الثورية التى تاهت منهم طول أعمارهم الطويلة حتى عادت إليهم فجأة فى شيخوختهم، وللأسف.. تحولت المنابر الإعلامية إلى منابر خطابية لا تبدو منزهة تمامًا عن الغرض أو تأثير أصحاب المصالح.. ولا أجد وصفًا آخر غير الذى أوردته فى مقالى سالف الذكر: «لقد أسهمت سطوركم المسمومة فى خداع الحاكم والمحكوم.. فكم زينتم للحاكم سطوته وتباريتم فى التفسير والتضليل، فظن أهل الحكم أنهم لا ينطقون عن الهوى، وأن جموع الشعب راضية سعيدة هانئة.. وكيف لا، إذا كانت النخب المعتبرة تعكس – زيفاً وادعاء – سعادة الشعب بحكمة الحاكم وعدله.. ولم تتأخروا فى وضع الكثير من السم فى القليل من العسل كى تخدروا عقول الأمة ووعيها.. وكيف لا، والناس تتطلع إليكم باعتباركم أفضل العقول وأخلص القلوب». انقلبت تلك السطور الآن كى تخلع ثوبها القديم مسارعة بوضع الثوب الجديد قبل ضبطها عارية مفضوحة.. وكان أشرف لها لو اكتست ببعض حمرة الخجل وتمسكت بمواقفها السابقة، لو احترمت عقول القراء واعتذرت بوضوح عن جرائم القلم السابقة.. إن تلك الأقلام السمسارة مثلها مثل النظام القديم يجب أن تختفى.