وقفتُ معكم فى المقال السابق، كيف كانت الطائرة تهتزّ بشكل عنيف ومفاجئ، ونحن فى طريقنا إلى لندن, فوق البحر المتوسط, السماء صافية، ولا يوجد أى سحب، ولم يخبرنا قائد الطائرة عن أى مطبّات هوائية متوقعة فى أثناء الاجتماع قبل بدء الرحلة.
كانت لا تزال الشمس فى المغيب، وكنت أراها فى الأفق، وأرى السماء صافية, وأكثر ما أزعجنى هو صوت قرع كبير فوق رأسى, أو فوق المكان الذى نوجد به وهو ذيل الطائرة, كان شيئا ما يقوم بقرع ذيل الطائرة بشكل عنيف, لدرجة أننى خفت أن ينفصل هذا الجزء من الطائرة، وأن نهوِى من ارتفاع 39 ألف قدم دفعة واحدة فى البحر الخالى من أى مطارات للهبوط الاضطرارى.
استمرت هذه الاهتزازات العنيفة ما يقارب 17 دقيقة, وهذا زمن كبير جدا فى عالم الطيران, فى العادة تكون المطبّات الهوائية لمدة بضع ثوانٍ إلى 5 دقائق, وأيضا تكون متوقعة من قِبل الأرصاد الجوية قبل الإقلاع, وتكون مكشوفة أمام شاشة الرادار فى قُمرة القيادة, فلِمَ حدث كل هذا دفعة واحدة وبشكل مفاجئ؟
كنتُ قد ذكرت أنها قد تكون النهاية, فلا شىء يشجّع على التفاؤل, قبطان الطائرة مستمر فى النداء بشكل دورى "على أفراد الطاقم العودة إلى مقاعدهم"، وأخذ يكرّرها أكثر من 10 مرات, فالطائرة تهتز بشكل عنيف فى اتجاهات مختلفة, ثم تهوِى بشكل عنيف، ولا ندرى لماذا هذه الاهتزازات! وما هذا الصوت الذى يُشبه القرع فوق رأسى فى ذيل الطائرة؟ ولماذا لم يتنبه إلى ذلك مسبقا؟ والسؤال الأهم لماذا كل هذه الفترة الزمنية الطويلة؟
وبعد ثلث ساعة تقريبا بدأت الأمور فى العودة للهدوء, غير أن قائد الطائرة نصحنا بالاستمرار فى مقاعدنا فترة مماثلة، حتى نتأكد من أن مرحلة الخطر قد مرّت.
وبعد ذلك، بتنا نتفقّد ما حدث من فوضى فى كل مكان فى الطائرة, أدوات الخدمة المختلفة وأكواب الشاى والقهوة منتشرة فى كل مكان, طاولات الطعام التى كانت أمام الركاب أصبحت فى سقف الطائرة، والجيد أن أحدا لم يصب بأذى! فقد كان كلٌ فى مكانه وقت بدء هذه المطبّات الهوائية.
بعد الهبوط بسلام وفى المطار وبعد خروج الركاب من الطائرة, حقيقةً لم نسأل القبطان عما حدث, لعلنا كنّا تحت الصدمة مما حدث، وأننا سعداء بأننا على قيد الحياة, إلى أن أخبرنا هو بنفسه أننا كنا نواجه "مطبّات الهواء النقى" (هكذا هى ترجمتها من الإنجليزية)، وهذه المطبّات عبارة عن دوّامات هوائية فى اتجاهات مختلفة, وهى ليست كالسحب الركامية الممطرة, فلا يمكن الكشف عنها بالرادار، ولا تظهر على خرائط الرصد الجوى الأرضية, وإذا ما حدث أن مرّت بها طائرة, فإن قائد الطائرة يتواصل مع الطائرات الأخرى لتحذيرها من المرور فى نفس المسار الجوى, وهذا لم يحدث معنا, فقد كنا نحن مَن يقوم بتحذير بقية الطائرات ألا تمر فى نفس المسار, فلا سبيل للكشف عنها, فهى تحدث فجأة وتختفى فجأة مثل الموت, وهذا ما كنا اختبرناه فى هذه الدقائق الخطيرة, غير أنه بعد رحلة العودة وبعد الخروج من المطار شعرت بشىء من النشوة مما حدث, لعله طعم الموت أو الخوف الذى كنّا نتذوقه, وشعرتُ أنه بإمكانى القيام بهذا العمل مجددا, فى الحقيقة، جذبنى ما حدث أن أستمر فى هذا العمل على عكس البعض الذى قد يفضّل سلامته فى عمل مكتبى, لعله نوع من المقامرة أو الرضا بقضاء الله.
