يتخيل كثير منا أن جملة من الحقائق تقطن فى صدره، لا تقبل الشك ولا الجدال من قريب أو بعيد، يحاول كثيرًا أن يبرر لنفسه من خلال تأويل يجد له هوى فى نفسه، وكلما أغلق غرفة فى صدره على إحدى هذه الحقائق، سرعان ما يبدأ فى البحث عن حقيقة أخرى يضعها فى غرفة أخرى، ومن ثم يغلق عليها باب الشك والجدال.
كنت أتحاور مع صديق فى بعض الأمور السياسية، بعيدًا عن القضية نفسها، ولكن اكتشفت أننا جميعًا ندور حول حقائق لا تقبل الشك، حاولت إقناعه برؤيتى، ولكن لم يقتنع، وليست هذه المشكلة، ولكن النظر للآخرين بأنهم على غير هدى، وأن حقائقنا لا تقبل الشك أو الجدال هى المشكلة التى أصبحت تصيبنا جميعًا.
نستمتع كثيرًا حين نجد تعليقًا أو مقالاً أو فيديو يتبنى رأينا، ونغضب بشده حين نجد النقيض، ويكون كل هدفنا فى ذلك الوقت كيف نستخرج الأخطاء والسقطات من هذا المحتوى حتى نبرر لأنفسنا أن حقائقنا التى نتكلم من منطلقها صحيحة جلية، ولا نفكر لبرهة واحده أننا مخطئون وقد يكون كل ما اصطحبناه من حقائق قديمة موروثة أو مستحدثة باطلة.
قد يكون هذا الشخص الذى يحاول تبنى حقائق لا تقبل الشك له بعض العذر فى نفسه، لأنه وجد تبريرًا لهذا المنطلق وإن كان يصيبه بعض الهوى، ولكن المدهش حقًا أن تأخذ تلك الحقائق من أشخاص قد يكون لهم مكانتهم وعلمهم فى نفسك.
هناك من ينتظر حقائق علماء الدين كى يتبناها مباشرة وإن كانت لا صلة لها بالدين , وهناك من ينتظر حقائق أهل السياسية أو أهل الإعلام أو أهل الفن وهلم جر.
هل العقل والمنطق مقتصر على أشخاص بعينهم وعلى البقية اتباعهم، هذا ما يحاول صناعته فئة كبيرة فى كل مجتمع، بالطبع هى الفئة المتبعة، تنظر إلى نفسها على أنها صاحبة الرأى والعقل، وأن ما سواهم عليهم الابتعاد تمامًا عن تلك المنطقة الشائكة من العقل حتى لا ينجرفوا إلى الباطل البعيد؛ معللين ذلك بان ما سواهم غير مؤهلين بالعلم أو المعرفة.
إننا نمارس القاعدة الشهيرة الذى يعرفها الكبير والصغير، "هذا ما وجدنا عليه آبائنا وأجدادنا"، نمارسها عن عمد فى صالحنا فحسب، لا نحاول الشك أو التفكير فى الموروث، وإن كان هذا الشك سيؤدى إلى يقين دائم ولكننا نبتعد هربًا، وكأنه علينا أن نمارس طيلة العمر دور المستمع المشاهد المتلقى، ولن نستطيع خوض غمار المسرح بأنفسنا مرة واحدة.
الدين واحد والإله واحد، ولكن الطرق متعددة ومتشعبة، وإن كان الأمر بعيدًا عن عقائدنا، فلماذا لا نجلس لنعيد ترتيب حقائقنا، من المؤكد أن هناك منها ما تبدد أو لم يعد صالحًا، وربما هناك ما يحتاج إلى تجديد أو تغيير، لماذا لا نبدأ الشك فى كل ما نتبناه من حقائق كانت منها موروثة أو مستحدثة، من المؤكد أن هناك أشخاص ينظرون إلى حقائقنا على أنها باطل، ونحن ننظر إلى حقائقهم بالمثل، فلماذا حقائقنا هى الصائبة وهم على خطأ، ما الذى يجعل حقائقنا أقوى وحقائقهم أضعف؟ !، سيقول قائل لأننا على حق وهم على باطل، بالمثل هم يرون أنهم على حق وأنت على باطل، وكل يدور فى دائرته التى لن تنتهى.
لن أخبرك أن تتبنى حقائق غيرك وتتخلى عن حقائقك، فهذا طلب غير عادل، ولكن لا تجعل لحقائقك غرف مغلقة لا تقبل الشك أو الجدال، بل أملئها يقينًا بعد شك، وثباتًا بعد جدال، حتى لا تنهار سريعا عندما تواجه أول عاصفة شك، وكذلك لا تنظر إلى حقائق الآخرين أنها لا تقبل التصديق البتة، حتى لا تصدم فى النهاية.
