فى صالونات المحروسة المعقمة من واقعها، يتبادل الجميع معلوماتهم حول الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، وتطبيقات الديمقراطية التى ازدهرت بعد هاتين الثورتين، ومن الطبيعى أن أحدا لا يتحدث الآن عن الثورة البلشيفية أو ديمقراطية الاتحاد السوفييتى.. ولكن لماذا لا نحاول الاقتراب من التجربة الصينية.. لعل وعسى نجد فيها الترياق وتنفض هذه الصالونات كى يبدأ العمل؟.. فى عام 1940 تحدث زعيم الصين ماوتسى تونج عما أسماه «الديمقراطية الجديدة» التى تكون فيها قيادة الحزب الشيوعى ممثلة «للديكتاتورية الديمقراطية» للفصائل الثورية فى مواجهة أعداء طبقة البروليتاريا الحاكمة.. بعد وفاة ماوتسى تونج، وانتهاء الفوضى التى أحدثتها الثورة الثقافية، تزايد الحديث عن الديمقراطية فى تصريحات القيادات الجديدة فى الصين، ورغم كل التقدم الاقتصادى الذى أحرزته الصين، فإنها لم تتحرك خطوة أخرى إلى الأمام فيما يتعلق بتطبيقات الديمقراطية المتعارف عليها مثل الحكومة الدستورية، والتعددية الحزبية والانتخابات العامة والحرة والفصل بين السلطات.. إلخ.
حول مائدة حافلة بالصحون الصينية الشهية فى منزل أحد سفراء الصين فى دولة إفريقية، شرح لى «الديمقراطية الصينية» مركزاً على ما أطلق عليه «النظام المستند إلى الكفاءة» أو Meritocracy، ويتضمن إجراء اختبارات للمتقدمين لشغل المناصب المهمة فى الدولة، وأكد لى أن ذلك هو تراث صينى يرى أن من يقود يجب أن يكون أكثر المواطنين ذكاء ومقدرة على الإنجاز، وعندما ناقشته فى هذا الأسلوب التحكمى واحتمالات الخطأ الواسعة فيه بما فى ذلك تدخل الواسطة والمحسوبية وسيطرة رأس المال.. إلخ، ابتسم السفير الحكيم وطلب منى أن أراجع معدلات النمو التى حققتها الصين خلال السنوات الأخيرة، مشيراً إلى أن الديمقراطية الغربية لا تناسب ظروف الصين.
كان ذلك فى عام 2005، وعندما عدت من منزل السفير الصينى، كتبت خواطرى كعادتى فى مثل هذه المقابلات، ووضعت لها عنوان: «الديمقراطية الموجهة.. بديل صينى»، وقرأت بعض الموضوعات المتعلقة بالتجربة الصينية الحديثة، فتبين لى أن الدستور الصينى يتيح الانتخابات الحرة فقط على مستوى القرى، أى يكتفى بالتنافس على المقاعد فى المحليات فيما يزيد على نصف مليون قرية يعيش فيها ما يزيد على 800 مليون مزارع، ولعل ذلك فى حد ذاته يمثل أداة لها اعتبارها فى النظام الصينى تم البدء فى تطبيقه منذ ثمانينيات القرن الماضى، لأن ذلك يعنى أن التركيز على المحليات فى المقام الأول يهدف إلى إيجاد قيادات قادرة على التقدير المحكم لاحتياجات القواعد الشعبية، ورفعها إلى المستوى المركزى فى بكين، ثم العمل الجاد فى تنفيذ الخطوط العامة التى يضعها ذلك المستوى المركزى لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن الملاحظات المهمة أنه لا يشترط أن يكون قادة المحليات أعضاء فى الحزب الشيوعى الصينى. لقد قال المؤرخ المشهور نيال فيرجسون «إن القرن العشرين قد شهد تدهور الغرب، والصعود التدريجى للشرق».. هل يمكن أن يعنى ذلك تراجع القيم الغربية بما فى ذلك مفهوم الديمقراطية، كى يحل محلها مفهوم شرقى جديد يحمل بعض ملامح قوة الصين الصاعدة؟.. هذا موضوع آخر.