نقلا عن اليومى..
نشبت فى الأيام الأخيرة فتنة طائفية بقرية «البدرمان» بمركز دير مواس، محافظة المنيا، نتيجة تداعيات ترتبت على قصة حب بين فتاة مسلمة وشاب مسيحى، وهى حالة تكررت فى السنوات الأخيرة، مما يدعونى إلى استعادة ما كان على هيئتها أو مثيلا لها فى أيام غير أيامنا، كان الناس فيها أكثر إنسانية وتسامحا.
وسأسرد هنا واحدة من هذه الحكايات أعرف طرفا كبيرا منها، لأن الناس توارثوها فى بلدنا، ألا وهى قصة حب أحمد وروزالين «روزالين»، كان هذا اسمها الذى يتعثر فى نطفه أهل قريتنا، وأكاد أن أجزم لك أننى ما عرفت اسمها الصحيح قط، حتى رأيته مكتوبا ذات يوم فى عقد بيع قطعة أرض صغيرة، أراه لى ابنها الأكبر بطرس بعد وفاتها، حين جلس مع إخوته يوزعون ميراثها القليل.
يومها وقف بطرس وسط إخوته، حنا ومينا وفلة وزكية وقال:
- كل واحد سيأخذ نصيبه حسب شرع ربنا.
وأرسلوا يومها إلى شيخ الجامع حتى يأتى ويوزع الميراث بينهم، وحين جاء تعلقت عيونهم بفمه، حتى نطق بما أملته عليه آيات القرآن، فأخذ كل منهم نصيبه، وتحلقوا حول الشيخ وهو يقرأ الفاتحة على روح الجميلة «روزالين».
روزالين لم تؤذ أحدا فى حياتها، ولم تضبط مرة وهى تقابل جارتها المسلمات بوجه عبوس، ولم يسمع أحد من فمها يوما لفظا جارحا، وعملت فى الحقل والبيت بهمة حفنة من الرجال، ولم تته على أى امرأة بجمالها أبدا، بل كانت تقول للنساء اللاتى يملأن عيونهن من وجهها الوردى الصبوح ويشهقن:
- خلقة الرب ونعمته، وعليها سيحاسبنى.
وقالت الجدة المسلمة لحفيدها:
-جدك أحمد كان عاوز يتزوجها.
فامتلأ وجهه دهشة، وقال:
- لكنها نصرانية.
فصمتت برهة وقالت:
- الرجل المسلم يحق له أن يتزوج نصرانية.
أما الجد أحمد فكان يرتعش قليلا كلما رآها، ويمصمص شفتيه، ويهمس حتى لا تسمعه زوجته:
- كل ما تكبر تحلو.
كان مسكونا بها، لا يرى الدنيا بعينيها فقط بل بوجهها أيضا، لأنه يطارده كظله، ليس كظله لأن الظل قد ينحسر ليلا، ويذوب تماما فى الأماكن المغلقة، لكن كطيفه، وربما كالملكين اللذين يحصيان حسناته وسيئاته، أو كأنفاسه التى تنبئه دوما أنه لا يزال على قيد الحياة.
وسألته أنا ذات مرة عن حكايته معها، فرمى رأسه إلى الخلف قليلا، ويكاد أن يغمض عينيه، وأرى رقرقة دموع فى محجريه، ثم قال:
- حرمنى أبى منها، مات هو وتركنى لوجعى.
فأستحضر وجه زوجته ناصع البياض، وقوامها الممشوق، وعينيها المائلتين للزرقة وشعرها الذى يتخالط فيه الأسود بالذهبى، وأقول له:
- ألم يكفك جمال زوجتك؟
فيبتسم ويرد:
- ست الحريم، لكن القلب وما يعشق.
وكنت كلما سألته عن حكايته مع روزالين، يربت كتفى ويقول:
- إسكت يا عفريت.
لكننى لم أسكت، غافلته ذات عصر، وقرص الشمس يذبل إيذانا بالرحيل، لأرى معه الشفق الراكد الذى راح يتشكل فوق شواشى النخيل، وقلت له:
- لن أقوم من مكانى هذا حتى أسمع الحكاية التى تكتمها فى صدرك.
تسربت حمرة رائقة إلى خده القمحى فازدهى، ومد كفيه إلى رأسى ورفعه من مكانه، ثم سحب فخذه بهدوء، وقال لى:
- روح ذاكر دروسك أحسن.
فاشتعل غضبى، لكنى كتمته، ورردت عليه:
- هل يخجل واحد فى سنك يا؟
فابتسم وقال:
- العشق لا سن له يا ولدى.
فضحكت من طرف خفى، وقلت متسائلا:
- ولا دين له؟
فهز رأسه:
- ولا دين له.
وقتها تذكرت مشاهد العشق التى أراها فى الأفلام الأجنبية، وكيف تتطابق مع تلك التى أتابعها فى أفلامنا العربية، وقلت:
- حقا، العشق لغة ينطق بها كل الناس.
ففتح عينيه دهشة، وبدت على ملامحه حيرة حيال هذا الولد الملقى جانبه، وقال:
- طالك الوعى بدرى.
ورفرفت بشائر النجوم فى سماء تكسوها سمرة أول الليل، وبدأت الضفادع فى النقيق، ونبح كلب من جوف الزراعات البعيد، فقال لى:
- هات الحطب.
وكنت أعرف أنه يبوح وهو يرشف الشاى الساخن، فجريت نحو شجرة الجوافة، ولملمت بعض ما تبقى من فرعها الذى أسقطته الريح قبل أسبوعين، وسلمته إلى الشمس لتجففه، خطفت بين ذراعىَّ حزمة ليست بالقليلة، وجريت نحوه، وضعتها أمامه، فمد يده ولملم بعض القش السابح حولنا، ودسه تحت الحطب، وأشعل النار، ثم صب ماء من القلة فى جوف البراد الملفوف فى سواد الحرائق المتتابعة، ووضعه على جانب النار، ولمعت فى نور النار وشعاع النجوم الذابل دموع نابتة فى مقلتيه، فمد كم جلبابه ومسحها، ثم تنهد وقال:
- كان العيش قد حل بجسدى يوم رأيت روزالين. كان أبوها غريبا على بلدنا، جاء فجأة، من أين؟ لا نعلم، واشترى قراريط وبقرة وحمارا، كان يركبه ووراءه هى، بنت ترمح من الطفولة إلى الشباب، وتخطف كل من ينظر إليها، ربما كنت أولهم، أو المائة، ليس مهما، لكن لا أعتقد أن أحدا فى هذه البلدة من شرقها إلى غربها قد هام بها مثلى أنا.
سكت، فسمعنا نشيش الماء ولفح البخار الساخن وجهينا اللذين يعانقان النار، ولم أشأ أن ألح عليه، حتى لا يزهق أو يخجل، بل لذت بصمت عميم، وأخذت أطلق من بين شفتى صفيرا شجيا، كناى معذب يقف عند حافة السماء وحيدا. هز رأسه لصفيرى، وراح يقاسمنى العزف الحزين، وكان أبرع منى بكثير فى هذه الهواية التى كان مشهورا بها فى كل القرى التى نعرفها.
ثم كف فجأة عن الصفير، وصب الشاى، وسحب رشفة طويلة وقال:
- غازلتها وشغلتها وجعلتها لا ترى فى كل شباب القرية غيرى، قابلتها مرات قليلة عند انحناء الجسر، أو تحت ظل الجدران فى لفح الهجير وهى عائدة وحدها من الحقل، وثلاث مرات فقط فى ظلمة الليل عند الساقية، فى إحداها عرفت طعم شفتيها، ولم أتعد أكثر من هذا. كنت أسهر الليل أسمع الأغانى لأجمع لها كلماتى، لكنها كانت عاجزة عن شفاء غليلى، فتعلمت معها وفيها أن أقول كلاما كالنشيد، وحملته إلى أفراح القرية، كنت أنشده فترفرف قلوب الأولاد والبنات، وينفض الكبار غبار الزمن عن قصصهم القديمة.
وأستعيد الآن رجع الأناشيد القديمة وصفير الناى ونواحه الذى كان يرفرف له قلبى الغض. كل ما أتذكره أن الجد العاشق أنشد:
«أقمار الدنيا جبين حبيبى
وتفاح الجنانين خدوده»
وأتذكر نشيدا آخر كانت بدايته:
«بعدك حزنى صديق
يا وردة قطفها غيرى».
بين هذين النشيدين تاه الرجل، وراح يقول: «لا النشيد ولا الربابة فيها طبابة لمغرم صبابة».
يومها لم يكمل لى حكايته، فقد جاءنا، ونحن جالسون أمام براد الشاى، صوت زوجته وهى تناديه، كانت ملهوفة عليه لأنه تأخر عن المعتاد، فلما جلست أمامه رمى رأسه على صدرها، وطوقها بذراعيه وقال لها:
- لا يتحملنى غيرك.
فمسحت شعره بأصابعها وقالت:
- ولا يملأ عينى غيرك.
لم أسأله عن بقية الحكاية لأن كثيرين فى قريتنا حدثونى عن المسلم الذى أحب المسيحية، فقال له أبوه: فارقتنى وقال لها أبوها: فارقينى لكن لا أبوه ولا أبوها تخاصما. جلسا سويا ذات ليلة وتعاتبا، وانتهى الأمر فى هدوء. فى الصباح خرجا معا إلى الحقل، يتحدث أبوها عن ابن عمها الذى خطبها وهى طفلة، ويتحدث أبوه عن زواج ابنه فى موسم القطن.
أترى لو كنت بينهما فى هذا الزمن بما فى رأسك تلك، ألم يكن رصاص قد فرقع، ودماء قد سالت؟ أم كان أحد المتطرفين قد قال لأحمد:
- اخطفها ولتكن من سباياك.
وأتذكر أننى سمعت روزالين تقول للبائع فى السوق:
- وحد ربك.
وحين كانت تمسك بيديها ما اشترته ينير وجهها وتقول:
- اللهم صلى على النبى.
ثم تمضى راضية وهى تلثم الأرض، فلا تؤذى حتى التراب.
د. عمار على حسن يكتب: حب بين مسلم ومسيحية فى غير أيام الفتنة الطائفية
الأربعاء، 11 ديسمبر 2013 10:07 ص