التاريخ هو تحليل وفهم أحداث الماضى عن طريق منهج يصف ويسجل ما مضى من وقائع وأحداث ويحللها ويفسرها على أسس علمية صارمة، بقصد الوصول إلى حقائق تساعد على فهم الماضى ومعاصرة الحاضر والتنبؤ بالمستقبل.
سؤال احتار الكثيرون فى الإجابة عليه إلا وهو من يكتب التاريخ، ومن هذا السؤال تتولد أسئلة كثيرة لا حصر لها، فهل من يكتب التاريخ هم من عاصروه أم التابعون، وممن عاصروه، هل هم أتباع فريق واتجاه معين، أم هم أنصار وأتباع الفريق الآخر، هل من يكتب التاريخ هو الحاكم أم المحكوم، هل الظالم أم المظلوم، وهل هناك من هو قادر على سرقة التاريخ، وتشويهه على النحو الذى يؤكد صحة موقفه وسلامة نيته ليدفع عن نفسه شبهة أو تهمة أو يكسب من وراء ذلك مجدا وزهوا قد لا يستحقه وغيره أولى به.
ولتقريب الفكرة لذهن القارئ نستعرض ملامح من التاريخ الإنسانى عبر عصوره المديدة لنستخلص منها المنهجية فى كتابة التاريخ.
قال المولى عز وجل فى قرآنه الكريم: "إن هذا لهو القصص الحق" فالقرآن الكريم لما تكلم عن تاريخ الأمم السابقة لم يحجب قصص الكفر ويبرز قصص الإيمان وفقط، بل عرض الأمر على وجهتيه، فهذا قصص موسى مع فرعون فحكى عن فرعون وعلوه فى الأرض وادعاؤه الإلوهية وزهوه بملكه واعتزازه برأيه وإعجابه بزينته، وحكى عن موسى ومنهجه فى الدعوة إلى الله ولو أن الأمر من وجهة موسى فقط، ما أورد قصته مع الذى استنصره فقتل خصمه، ولو أن الأمر من وجهة نظر فرعون فقط، لما أظهر معجزة تفوق موسى على سحرته وأخفى إيمانهم به.
وفى التاريخ الحديث مع بداية عصر النهضة على يد محمد على، أورد التاريخ ما فعله محمد على ليستتب له حكم مصر، ويقيم دولة عصرية حديثة قاربت أوروبا وهددت عرش بعض ملوكها ولو أن التاريخ كان وجهته ما ذكر به كيف تخلص من قادة المماليك فى مذبحة القلعة وبطشه وتنكيله بالفارين منهم، وعلى الجانب الآخر، لو أن الأمر من وجهة نظر المماليك، لما أوردوا فتوحاته وإنجازاته والنهضة التى أحدثها بمصر ويجنى ثمارها الأجيال.
إن الوثائق ليست فى حد ذاتها تاريخا، وإنما هى شهادة تشهد على جزء من اللحظة التاريخية وقد تكون هذه الشهادة مزيفة، ولذا ينبغى مقارنتها بشهادات أخرى بهدف الوصول للحقيقة لأن الحقائق التاريخية لمرحلة معينة تخضع دائما للتبديل والتعديل، وكذلك لحذف بعض عناصرها بسبب المصالح، أو بغية إخفاء ما لا يتلاءم مع الفاعلين فى التاريخ، وهذا مثلما حدث من تشويه لفترة ما قبل ثورة يوليو 1952 من تضخيم لسوء وفساد ما كانت عليه مصر الملكية، وأيضا ما حدث من تلاعب بتاريخ حرب أكتوبر المجيدة وتبديل الأدوار وادعاء البطولة أو المبالغة لدور أحد قادتها أو نزع دور فاعل عن قادة آخرين.
لهذا وجب على المؤرخ وهو يدون كتاباته التاريخية أن يتعامل مع الحقائق بعيدا عن دوائر المصالح ولغة البلاط والولاءات والحسابات الضيقة، وأن يبحث فى علاقة تلك النصوص بأصحابها لتحرى الدقة والموضوعية والابتعاد عن الذاتية التى تجعل من النص التاريخى عرضة للتأويل.
وفى خطاب ألقاه الرئيس الأمريكى جون كنيدى أمام طلبة جامعة ييل الأميركية، فى 11 يونيو 1962 قال: «إن ألد أعداء الحقيقة ليس الكذب المتعمد والمضلل والمختلق، بل الأسطورة المتواصلة والمقنعة وغير الحقيقية، إننا فى أكثر الأحيان نتمسك بقوة ما رسمه الأجداد ونخضع كافة الحقائق إلى مجموعة من التأويلات المصطنعة كما أننا نستمتع بالراحة التى نستمدها من إبداء الرأى دون أن نخوض مشقة التفكير.
وفى كتاب سرقة التاريخ لجاك غودى، أحد أبرز علماء الاجتماع فى القرن العشرين قال: "إن الممارسات التى تؤدى إلى تشويه وسرقة تاريخ الآخرين، وتهميش وإنكار دورهم التاريخى والحضارى، هى أبشع أنواع العنصرية، وقد أدت إلى تحيز معرفى خطير تتوارثه الأجيال ليس فقط فى دراسة التاريخ ولكن فى كافة العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ حيث تحل الأسطورة والخرافة محل التعامل العلمى الموضوعى والمنصف لأحداث وأشخاص الماضى".
والعجيب أن التاريخ نفسه هو من يقف حكما فاصلا بين الرأى والرأى الآخر بين كافة الأطراف والجماعات والطوائف بين الحاكم والمحكوم بين الحكومة والمعارضة بين السلطة والشعب، لا يهمل أحدا ولا يتجاهل أحدا، لا يرفع أحدا أو يضع أحدا آخر، التاريخ منصف وإن حاول البعض تزييفه أو تشويهه أو سرقته، فإنه هو من يفضح هؤلاء حتى لو طال بهم الزمن وعلا قدرهم على غير ما يستحقون، التاريخ يعيد نفسه ليس بالأشخاص أو الأحداث ولكن ليعطى فرصة للمعاصرين أن يعرفوا ما كتبه أسلافهم، هل هو التاريخ أم هو نسج من الخيال والضلال.
