مضى وقت طويل لم ألتق به على المقهى. كنت أعرف أنه سيظهر اليوم لأن ما جرى فى البلاد لا يتحمله شخص وحده. لن يجد تفسيرا مقنعا ولن يستطيع وحده أن يغلق باب القلق إن لم يكن الحزن. لابد أن يتكلم مع أحد. وهو الذى يكلمنى وأنا الذى أكلمه. كل منا يظهر للآخر وقت الارتباك. وجدته قادما نحوى ومعه كراسة كبيرة. لم يكن يحمل صحفا هذه المرة مما أدهشنى كثيرا. كان الماضى ينقذه مما حوله. يبدو أنه طلق الماضى أيضا.
ما إن جلس حتى طلب كوبا من الينسون. قال: منذ أمس شربت عشرة أكواب من الينسون.
ابتسمت وقلت: أنا شربت خمسة. لكن قل لى أين الصحف القديمة؟
- أنفقت الليلة كلها أحاول أن أكتب شيئا. لكن الكراسة كما هى بيضاء صفحاتها. حملتها معى ربما أكتب شيئا هنا.
فتح الكراسة وتصفحها أمامى. كانت بيضاء فعلا إلا صفحة واحدة رأيت فيها بخط كبير جملة «الثورة راحت فين».
سكت لحظة وقلت: أنا أيضا سألت نفسى هذا السؤال طول الليل أمس. وكثير من الشباب سأل السؤال نفسه على مواقع تويتر والفيس بوك. وأكثر من مرة أمسك نفسى متلبسا بالرغبة فى السؤال لكن رحت أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية عشقى فى الأزمات. بالموسيقى نسيت كل العهود السابقة وظلمها وبها سأنسى هذا الغموض وهذا الاضطراب.
- كنت أستمع إليك وأقتنع طوال الأعوام الثلاثة السابقة. أسألك أين قيادات الثورة تقول لى أنها ستفرز قياداتها. هل تحتاج ثورة أكثر من ثلاث سنوات لتفعل ذلك؟
سكت لحظات ثم كدت أتكلم فقال: إياك أن تقول لى إن الإرث الذى تركه نظام مبارك كبير وإياك أن تقول لى إن فى شباب الثورة براءة تجعل ليبراليتهم مفتوحة حتى للأعداء وإياك أن تقول لى إن سنة الإخوان المسلمين فعلت فعلها بالعقول. أجبنى يا صديق العمر كيف يجتمع اليساريون مع الإخوان المسلمين؟
سكت فقال: ثلاث سنوات لا تكفى لنعرف الخصم الأساسى من الثانوى. من هو الخصم الثانوى الآن. ومن بعد 30 يونيو يتصور أن الحكم العسكرى سيعود ونحن نرى خريطة الطريق فى طريقها للتحقق. أليس الدستور أكبر خطوة فى هذا الطريق. وحتى لو حدث شىء من هذا لن يكون تصحيحه سهلا بعد أن ننتهى أولا من الإخوان.
ظللت ساكتا فقال: لماذا لا ترد؟
طال صمتى. طلبت لى كوبا جديدا من الينسون. ثم نظرت إليه وقلت: ليس عندى أى إجابة يمكن أن تريحك. للأسف أنا داخل فى حالة من الصمت. وإذا كنت مصمما على أن أتكلم، فسأسكت وربما أترك مكانى ولا ألتقى بك مرة أخرى.
- لن تستطيع لأن ما جرى فى ميدان التحرير ومسألة إحياء ذكرى محمد محمود أمر خارج حدود العقل. كنت تقول إن ما يفعله الإخوان سيعيد الدولة القديمة أقوى مما كانت. هل ما حدث الآن سيمر دون تعاطف مع الدولة القديمة. لقد التزمت قوات الأمن الصمت وقتا طويلا جدا حتى بدأ الهجوم على جامعة الدول العربية. ثم ما معنى احتراق علم مصر. من يفعل ذلك إلا الإخوان المسلمون؟
قلت فى هدوء: ألم تنتبه إلى أنى صامت لأنى لن أختلف معك كثيرا. أكثر من ذلك أقول لك أن الأذكياء من الثوار قالوا إنهم لن يحيوا هذه الذكرى ما دام الإخوان أعلنوا نزولهم، فهم الذين خانوا الثورة فى كل مراحلها وبالذات فى معركة محمد محمود. كلهم قالوا إن حق الشهداء لن يضيع لكن لن ننزل فى ميدان يشاركنا فيه الإخوان. هؤلاء الذين فعلوا ذلك ارتكبوا خطأ كبيرا. لكنهم تماما كما الإخوان لن يفوزوا بشىء إلا نفور الناس منهم وإدانتهم. ومن ثم تماما مثل الإخوان سيضعفون مع الوقت ويخصمون بضعفهم من رصيد الثوار. إنهم ليسوا كالإخوان حقا. والثورة بدون الإخوان قوية لكن هؤلاء كانوا من أصول الثورة التى اهتزت. سيفسحون الطريق للحديث عن العمالة لجهات أجنبية وعن النقود التى تدفع لهم وغير ذلك مما كان لا يصدقه أحد لكن للأسف سيجد من يصدقه الآن. وأقول أكثر منك إن الحكومة ووزارة الداخلية أخطأت حين دعت للنزول لإحياء ذكرى الشهداء حقا لأن الشهداء كانوا بأيديهم لكن اختلف الأفراد أو اختلف من كان يملك القرار وكان على الموجودين الآن تقديم اعتذار عما ارتكبه سابقوهم، ووعد بأن حقا لا يضيع. لكن حتى رغم أنهم لم يفعلوا ذلك فكل عاقل كان يعرف أن الإخوان المسلمين سيحولون الأمر لفائدتهم هم وليس الوطن ولا شهداء محمد محمود.
ثم نظرت إليه وقلت: هل ارتحت الآن؟
تنهد تنهيدة طويلة وأشعل سيجارة فسألته: هل عدت إلى التدخين؟
- ماذا يمكن أن يفعل الإنسان الآن إلا أن يدخن أو حتى يحترق.
عدت أبتسم وأقول له: هون عليك يا صديقى. أكثر من كده وأزاح ربنا.
وحط علينا الصمت ثقيلا. ثم وجدته يحدق فى الطرابيزة كثيرا ثم ينظر أسفلها ويقف وينظر حوله.
- ماذا جرى؟ عم تبحث؟
- الصحف. كانت معى.
- أنت أتيت دون الصحف.
انطلق يضحك بقوة وقال:
- لا حول ولا قوة إلا بالله. نسيتها فى التاكسى.
- قدر الله وما شاء فعل.
- كيف سأحصل عليها مرة أخرى؟
قال ذلك فى أسف كأنه يحدث نفسه. ثم أردف.
- لم يعد معى إلا كراس فارغ. هل حقا سأجد من يملأه بشىء سعيد؟
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصريه
حوار رائع