سيرة الخال .. " الحلقة التاسعة" .. الأبنودى: أعدائى شعراء محبَطون وأى حاجة تطلع عليّا وراها شاعر محبط لذلك يقولون إنى سادد الطريق عليهم

الإثنين، 18 نوفمبر 2013 12:03 م
سيرة الخال .. " الحلقة التاسعة" .. الأبنودى: أعدائى شعراء محبَطون وأى حاجة تطلع عليّا وراها شاعر محبط لذلك يقولون إنى سادد الطريق عليهم الابنودى مع محمد توفيق

حلقات يكتبها - محمد توفيق
نقلاً من اليومى..
لولا أن هذه الواقعة رواها لى الخال بذاته، ما صدقتها أبدًا!
صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودى ومعهما سيد حجاب برفقة سيد خميس كانوا يبحثون عن ناشر، ولا يجدون!

كان جاهين يريد طباعة «الرباعيات»، والأبنودى يريد طباعة ديوانه الأول «الأرض والعيال»، وحجاب كان قد انتهى من ديوانه «صياد وجنيّة»، ويود طباعته، لذلك قرروا عمل دار نشر كى يستطيعوا طباعة أعمالهم الشعرية، واتفقوا على تسميتها «ابن عروس» وتولَّى صديقهم سيد خميس ترتيب أمور المطبعة، والاتفاق مع أحد أصحاب المطابع، وتم بالفعل طباعة الدواوين الثلاثة.

لكن رغم أن هذه الأعمال البديعة «كسرت الدنيا» وتحديدًا «رباعيات» جاهين التى ما زالت تتصدر مبيعات الكتب حتى الآن، فقد أبلغهم صاحب المطبعة الذى تولى أمور التوزيع أن الكتب لم توزع نسخة واحدة، وبالتالى ليس لهم مليم واحد لديه، فقرر الثلاثة إغلاق دار نشر «ابن عروس»، بعد أن تعرضوا للنصب، وضاعت فلوسهم على هذا المشروع، ولم يحصلوا على نسخ مطبوعة من أعمالهم، وبعدها قرر كل منهم طباعة عمله على حسابه.
لكن علاقة الخال الأبنودى بعمنا صلاح جاهين، لم تكن على وتيرة واحدة، بل مرت بمراحل صعود، وهبوط، وفرح، وغضب!
فقد بدأت العلاقة عبر موجات الإذاعة، فقد سمع الخال اسم صلاح جاهين لأول مرة فى الراديو.

حينذاك كان الراديو يذيع أغنية اسمها «حلاوة زمان عروسة حصان» ولمست الأغنية رغم بساطتها قلب الخال، وتعلق بكاتبها، الذى اعتبره اكتشافا عظيما، لكنه علم أنه واحد من أكثر الشعراء شهرة رغم صغر سنه، وأن له دواوين كثيرة منها ديوان «موال عشان القنال»، و«عن القمر والطين» ومنذ ذلك اليوم ارتبط الأبنودى بجاهين، وصار يدخّر من مصروفه من أجل شراء مجلة «صباح الخير» حتى يقرأ رباعيات جاهين التى كان ينشرها فى ذلك الوقت.
بعدها دشن صلاح جاهين بابا جديدا فى المجلة بعنوان «شاعر جديد يعجبنى» نشر فيه لعدد كبير من الشعراء- صاروا علامات بارزة فى تاريخ الشعر- فأرسل إليه عبدالرحمن الأبنودى قصيدة بعنوان «الطريق والأصحاب» على ثلاث صفحات مكتوبة على ورق المحكمة- التى كان يعمل بها الخال- وعندما نُشرت القصيدة أحدثت صدًى كبيرا، وقبلها كان قد نُشرت له قصيدتا «النعش طار» و«لقمتين وسيجارة بيلمونت».


وحين حضر الأبنودى إلى القاهرة كان من أول الأبواب التى طرقها باب صلاح جاهين الذى كان فى انتظاره؛ واحتفى به بمجرد مجيئه إليه، وصارا صديقين، وحين انتقل جاهين من مجلة «صباح الخير» إلى جريدة «الأهرام»، ظل حريصا على أن ينشر قصائد الخال الجديدة فى مربعه اليومى المخصص للكاريكاتير، وكذلك قصائد سيد حجاب.

واستمرت علاقة الود بينهما وتعمقت وتأصلت، وصارت بينهما لقاءات دائمة وشبه يومية، يتحدثان فى الفن والشعر والأدب والحياة الشخصية ويروى كلاهما للآخر أدق تفاصيل حياته ومعاناته، لكن فجأة حدث ما عكَّر صفو هذه العلاقة بين القطبين الكبيرين، حتى إن البعض أكد أنه كان مفترق الطرق!

لذلك كان لا بد أن أعرف من الأبنودى سر خلافه مع جاهين، بل إنه كان أول سؤال يشغل بالى حين ذهبت إلى الخال هو: لماذا حدث خلاف كبير بينه وبين عمنا صلاح جاهين؟ وهل كتابة قصيدة رثاء لجاهين كانت بمثابة اعتذار عما حدث؟!

فأجاب الخال قائلًا: صلاح قال فى أغنية المسؤولية «تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا فى كل قرية مصرية»، فتذكرت أبنود، وتذكرت أن الوحدة المجمعة أيام عبدالناصر اتعملت بالعافية، وأن الناس بسيطة وأحلامها بسيطة، فشعرت بكلام جاهين أننا نستقلّ بأحلامنا عن الناس، وكتبت فى «روز اليوسف» وقتها أن صلاح جاهين تطرف بأحلامه، لدرجة أنها أصبحت مستحيلة، وكانت علاقتى بصلاح جاهين «جَدّ» على عكس علاقته بشعراء آخرين حيث كانت «عاطفية» أكثر.

ويتذكر الخال الأبنودى، العم جاهين ويقول: صلاح كان نقيًّا جدًّا، مابيعرفش يشيل من حد، فى يوم كان عازمنى فى جريدة الأهرام، قال لى «على فكرة أنا مش هابطَّل أحلم» فردّيت عليه بجملتى الشهيرة «لو بطلنا نحلم نموت يا صلاح، الشعر أصلا أساسه الحلم، لكن أنا باتكلم عن التطرف فى الحلم الذى يبعدنا عن الناس»، فقال لى «عندك حق بس مش هابطَّل أحلم على كيفى».

ويكمل الخال: قصيدة جاهين كانت نوعًا من الوفاء لإنسان ساعدنى فى يوم من الأيام، وفى الوقت نفسه كان الهدف منها تكريمه، والاحتفاء برمز كبير يجب أن تعرف كل الأجيال قدره، ومكانه ومكانته، فهو قامة شعرية قد لا تتكرر بعد أجيال وأجيال.

انتهت إجابة الخال، وانتهى الخلاف، وبقيت القصيدة التى كتبها الخال الأبنودى عن العم جاهين:
الاسم زى الجواهر فى الضلام يلمع..
تسمع كلامُه ساعات تضحك ساعات تدمع
شاعر عظيم الهِبات.. معنى ومبنى يا خال
يشوف إذا عَتَّمِت واتشبَّرت لاحْوال
كإنه شاعر ربابة.. ساكن الموّال
يقول.. وحتى إن ماقالش تحسّ إنه قال
ولا يقول مِ الكلام إلا اللى راح ينفع!!
وتعالى شوف يا صلاح
اللى جرى واللى كان
سرقوا لون الصباح
وبهجة المكان..
مكان صلاح جاهين
الظلم كِبر.. وسادِد
مصرك ماعادتش هيه
أضيق من القصايد
واوسع من رباعية..
كتبها صلاح جاهين
عاش عمره يشبه نفسُه
وفى صدقه شخص عادى
أمله رماه ليأسُه
قالّك: «بلاش السنادى»
ورحل صلاح جاهين
وكل ما جَسَدُه غاب
الراجل الأصيل
يحضر من الغياب
حانِنْ لنهر النيل
وامْضِة صلاح جاهين
كان كل نجوم هذا الجيل الفذّ من شعراء العامية أصدقاء، إلى أن فرَّقتهم السياسة إلى أحزاب، وطوائف، وجماعات، فكلهم يؤمن بموهبة الآخر حتى لو أخفى إعجابه وتقديره، لكن الرؤى السياسية وحدها جعلت بعضهم يصل عند مفترق الطرق.

لكن الأبنودى له رأى آخر، فعندما سألتُه عن سر العداء بينه وبين بعض الشعراء، فأجاب: «أنا دائمًا أعدائى شعراء محبَطون، أى حاجة تطلع عليا دور وراها هتلاقى شاعر محبط، ودائما يقولون دا سادد علينا الطريق ولا يحب إلا نفسه، كذلك ربنا يكفيك شر الشعراء المفلسين، مايعرفوش إلا الكراهية، ودائما ينتظرون أن يكونوا معى فى جملة مشتركة، وأنا أتحاشى ذلك تمامًا».


حين حضر عبدالرحمن الأبنودى فى الستينيات إلى القاهرة كان نجيب محفوظ يعقد جلسته صباح الجمعة فى كازينو بديعة أمام الأوبرا القديمة.

وكان يحرص الأبنودى على حضور هذه الجلسات بصحبة صديقه سيد خميس، لكنه كان يظل طوال الجلسة صامتًا، لا يتدخل فى مناقشة، ولا يُعلِّق برأى، لذلك لم يكن يتصور أن نجيب محفوظ يعرفه أو يتذكره، لكن اكتشف ذلك عندما انتقلت الجلسة إلى قهوة «ريش»، حينها سأل عليه نجيب محفوظ، وقال: «كان فيه راجل صعيدى مهذب جدًّا ونحيف وكان دائمًا يحضر لى ولا يتكلم وأنا عمرى ما وجهت له كلام»، فقالوا له: ده عبدالرحمن الأبنودى.

وبعدها، جاء إلى الأبنودى صديق اسمه عماد العبودى، وقال له: «عايز أوديك عند عمك نجيب تسلم عليه»، وبالفعل ذهبنا معًا، وحين وصلا إلى مجلس نجيب محفوظ، وجدا أحمد مظهر، وتوفيق صالح، وآخرين من بقايا «الحرافيش».

واستقبل محفوظ، الأبنودى، بسعادة غامرة، وعانقه، ثم جلسا لساعات يضحكان دون سبب، حتى إن جريدة «الأهرام» نشرت هذه الصورة، وعلَّقت عليها بعنوان «مَن الذى أطلق القنبلة؟».

وتعددت اللقاءات بين محفوظ والأبنودى، فقد انضم الخال إلى جلسة الثلاثاء التى يجلس فيها «عم نجيب» فى مركب اسمه «فرح بوت»، ويحضرها جمال الغيطانى ويوسف القعيد وزكى سالم، وغيرهم من المثقفين والأدباء، وتوثقت علاقة الخال بعمنا نجيب، حتى صارت جلسة الثلاثاء من الثوابت.

واعتاد الأبنودى أن يذهب إليه، وفى جيبه مقاله الجديد الذى كان يكتبه حينها فى «الأهرام» كل جمعة بعنوان «أيامى الحلوة»، وكان «عم نجيب» يغضب حين يأتى الأبنودى من دونه، فقد اعتاد أنه مع أول رشفة من فنجان قهوته وبعد «نفسين من سيجارته الكينت»، يقول له: «ها يا عبدالرحمن قلت إيه الأسبوع ده؟»، فيقرأ عليه ما كتبه ونشره، وذلك بعد أن يكون يوسف القعيد بدأ الجلسة بقراءة كل الصحف المصرية والعربية حتى يدرى الأستاذ ما يجرى حوله من أحداث بعد أن تأثر بصره وسمعه ويداه بعد الطعنة الغادرة التى غرستها يد الإرهاب فى رقبته فى أكتوبر 1994.

لا يذكر الأبنودى نجيب محفوظ إلا ويقول «عمك نجيب» لا يذكر اسمه دون هذا اللقب، ورغم حبه الشديد وصداقته العميقة ليوسف إدريس فإنه يقول ويكرر دائمًا «على الرغم من عشقى لإدريس وأدبه، فإن عم نجيب له مرتبة فوق كل المراتب، فهو كاتب عظيم لن يتكرر مرتين فى التاريخ، ولديه إخلاص غير مسبوق للكتابة، لدرجة أنك عندما تنظر إلى حياته تضرب كفًّا بكفّ وتسأل: متى يكتب؟ ومتى يجلس مع أصدقائه؟ ومتى يذهب إلى وظيفته الحكومية؟ وكيف يصل إلى هذه الدرجة من الصفاء والنقاء الأدبى والإنسانى؟
هذا السؤال كان لغزا لكل مريديه وحرافيشه الذين يجلسون معه طوال الليل وفى النهار يفاجئهم بعمل جديد، وفى إحدى المرات كان الأبنودى يسهر مع «عم نجيب» يتسامران ويتحدثان ويضحكان، ثم انصرف إلى بيته، وفوجئ الخال فى اليوم التالى بأن نجيب محفوظ انتهى من كتابة «أصداء السيرة الذاتية»، وعندما سأله متى وكيف كتبها؟ أجابه محفوظ: شعرت أن الفكرة استقرت فى فكرى ووجدانى، فأمليتها على الرجل الذى يكتب لى، وبالفعل سجلت كل ما كان يدور فى ذهنى.

لذلك كان الأبنودى يقول دائمًا لنجيب محفوظ: أنا وكل شعراء مصر نحمد الله على أنك طلعت روائى مش شاعر، لأن كان زمانك روَّحتنا بلادنا بعد ملحمة «الحرافيش» و«أولاد حارتنا»، دى أعمال شعرية خالدة زى أعمال «هوميروس»، فلو كنت بتكتب شعر كان زمانا بنقّى دودة فى الغيطان؛ لأن أنت حالة جبارة شعرًا، لأنك تهدم الكائن وتعيد بناءه حسب رؤيتك.

علاقة الأبنودى بمحفوظ استثنائية، فهى حالة إنسانية قبل أن تكون أدبية وثقافية، فعندما مرض نجيب محفوظ مرضه الأخير، وظل طريح الفراش فى المستشفى فى أيامه الأخيرة، وكانت زوجته تمنع أى زائر من المرور إلى غرفة العناية المركزة خوفًا على حالته الصحية، وحتى لا يراه أحد فى لحظات المرض والضعف، لكنه فى لحظة من هذه اللحظات استفاق كان فى هذه اللحظات التى يستفيق فيها من غيبوبته فسأل: «أُمال فين عبدالرحمن الأبنودى؟»، فيرد عليه الخال من خلف باب غرفة العناية المركزة بعد أن فتحها دون استئذان «أنا أهو يا حبيبى»، ويدخل الأبنودى وحده إلى عمنا نجيب محفوظ رغمًا عن زوجته.

المدهش أن نجيب محفوظ رغم شهرته الكبيرة ومكانته العالية والمتفردة ظل زاهدًا طوال حياته، لم يسعَ إلا مجد أو شهرة أو نفوذ أو جاه أو مال أو أى شىء، فحين حصل على جائزة نوبل كان نائما فى سريره، فدخلت عليه زوجته وقالت له بفرحة غامرة:
«اصحى.. نجيب أنت فزت بجائزة نوبل»!
فرد عليها نجيب محفوظ غير عابئ:
«أنا مش قلت لك تبطلى أحلام»!
لكن على عكس محفوظ كان يوسف إدريس، فلم يعرف النظام اليومى الصارم للكتابة طريقًا إليه، وكان ينتظر جائزة نوبل التى ذهبت إلى غريمه نجيب محفوظ، بل إنه كان فى أسوأ حالاته المزاجية حين تم إعلان اسم الفائز بالجائزة.

لكن يظل يوسف إدريس هو المشاغب الأعظم الذى علَّم مصر كتابة القصة القصيرة، والرائد الكبير الذى «ينزّ» مصرية، والذى كلما عدت لقراءته تكتشف أنك لم تعرفه.

هكذا يصف الخال يوسف إدريس الذى عرفه عن قرب، وكان رفيقًا له فى رحلات أدبية كثيرة.
لكن أشهر وأطرف رحلة جمعت بينهما كانت فى السودان عام 78.

وقد كانت من عادة الخال أن يذهب إليها مرة كل عام، وقد تصادف وجودهما معًا فى ندوة واحدة، ويومها ألقى الأبنودى قصيدته:
من بوابات العالم التالت بتخرج مصر
تخرج كما خرجت مثيلاتها
بتلمّ تِرْكتها.. وترمى فكرتها.. وتطفى ثورتها
وتقطَّع الأوراق وبتواريخها بتجاربها بحكمتها
تقطَّع الأوراق برمّتها وتقيّد فى السنوات كلّتها
تتدَّفَّى فى نورها وِولْعتها
ويميل نخيل.. ويئن نهر النيل
وتنهر الكنال ميتها وميتها
وتدارى عورتها
وبعد أن أنهى الخال قصيدته، وأشعل الندوة، هاجم اتفاقية كامب ديفيد هجومًا عنيفًا، وحين جاء الدور على الأديب الكبير يوسف إدريس، فاجأ الحضور قائلًا: «انتو شعب شطة.. وناسكم شطة.. وكلامكم شطة»!
فاندهش الجميع إلا الأبنودى الذى كان يأكل «الشطة السودانى» بصحبة يوسف إدريس قبيل الندوة، وشعر أن «الشطة مفعولها اشتغل» فهى أكلة سودانية شهيرة بعد أن تأكلها «تحس أن أنت مش ماشى عَ الأرض وأن عينيك مش هى عينيك»- على حد وصف الخال- فذهبا إلى الأمسية كأنهما «سُكارى»، لكن الأبنودى كان معتادا على هذه الأكلة، لكن إدريس هو الذى لم يتحملها.

وبعد أن صمت إدريس قليلا، وتحدث الأبنودى مرة أخرى، عاد إدريس وقال «الأبنودى بيقول عليَّا إن أنا علشان بقى عندى أسرة واستقريت خلاص، وعشان كده قاعد باقول شطة.. شطة.. طاب يسقط أنور السادات»!
هكذا قالها واشتعلت الندوة، بل اشتعلت الدنيا كلها.

لكن يبدو أن رائحة الاشتعال وصلت إلى القاهرة فى التوّ واللحظة، فبعد انتهاء الندوة، وفى أثناء خروج الأبنودى استوقفه رجل السفارة، وقال له: «عايزينك فى السفارة بكرة، فقال له الأبنودى: «ليه؟».

فأجابه: «علشان نتكلم فى الأدب والشعر».

فضحك الأبنودى وقال له ساخرًا: «يا راجل يا بارد أنت جاى علشان سمعت إن إحنا خربناها النهارده فى الندوة.. امشى يا راجل اوعى من السكة».

وتركه الأبنودى، وانصرف، بعد أن كان يوسف إدريس قد سبقه إلى الفندق.

وفى صباح اليوم التالى، استيقظ الأبنودى كعادته مبكرا ليجلس مع أحبابه وأصحابه ويتجول معهم فى السودان، بينما ظل إدريس نائما، وحين استيقظ ونزل من غرفته وجد أمامه مجموعة من الأشخاص يرتدون نظارات سوداء ضخمة، وتوجهوا إليه وسألوه: «أنت عبدالرحمن الأبنودى؟» فقال لهم: لأ مش أنا، فقالوا له: «لأ أنت عبدالرحمن الأبنودى»، وأمسكوه وأخذوه معهم فى سيارة كانت فى انتظارهم أمام الفندق، وانطلقوا به»! وعندما عاد الأبنودى من زيارته للمتحف القومى وجد الشرطة فى كل مكان أمام وداخل الفندق، وسألهم: «ماذا حدث؟» فأخبروه أن يوسف إدريس تم إلقاء القبض عليه!
مر الوقت ثقيلا على الخال، خصوصًا بعد أن أخبره أحد الموجودين أنه هو الآخر سيتم القبض عليه!
وظل الخال يفكر فيما يفعله، ويقول لنفسه لو أن «النميرى» رئيس السودان كان موجودًا ما حدث ذلك، لكن رحلته الأولى إلى إثيوبيا واصطحابه أغلب الوزراء معه هو السبب فى عدم تأمينهم بصورة جيدة.

لكن فى أثناء حديث الخال مع نفسه، حضر يوسف إدريس بصحبة اثنين من الوزراء اللذين تدخلا لفك أسره، وإعادته من إحدى الجهات الأمنية التى كانت قد ألقت القبض عليه، لكن بمجرد عودته قال للأبنودى: «منك لله يا عبدالرحمن.. كانوا عايزينك أنت.. وأنا كنت هاموت بدالك».

لكن السؤال الذى كان يراودنى أثناء حديث الخال عن حبه الجارف ليوسف إدريس ونجيب محفوظ، هو: كيف كان يحتفظ بعلاقته بالاثنين معًا وبنفس الدرجة من الحب والمودة؟
فأجاب: «الانتماء إلى شاعر واحد نوع من الغباء، فربما تُعجب بنصف شاعر، فمثلا أحمد شوقى أنا ممكن أُعجب بنصف شعره، وأُعجب بالمتنبى كله، وهكذا».

واستطرد الخال قائلًا: يوسف إدريس فيه خاصية أظن أن القليلين يتمتعون بها، وهى إلغاء السن بمعنى أنه معك ينسى مَن هو، وكم عمره، ولديه قدرة فائقة على محو الفوارق من كل لون، ولقد كان يقرأ كل إبداع الشباب، وكانت لديه لياقة جسدية وبصرية على عكس أستاذنا الراحل نجيب محفوظ الذى انقطع عن المتابعة منذ وقت مبكر أو لويس عوض الذى كان يؤمن بعدم المتابعة لإنتاج الأدباء الجدد من الشباب، بل كان لا يُخجله أن يعلن هذا الرأى باحتفالية، وأذكر أننى كنت قد نشرت قصيدة اسمها «مطر على المدينة» وظل يوسف إدريس لوقت طويل جدًّا مندهشًا منها وهو يقول إننى سرقت عالم الروائيين والقصاصين، وقد كنت أتهمه بأنه يجوس فى أنحاء الشعر من دون خوف من حرّاسه.

واختتم الخال حديثه عن إدريس قائلًا: «يوسف إدريس، وأنا أقرأ له أشعر بالعَجب، وأحس أنه أخويا وعمى، وعايش معايا وأكل معايا فى طبق واحد، فتجد ألفة شديدة فى أدبه، لكن أدب نجيب محفوظ فيه حوار قاسٍ، وأنت تقرأ لعمك نجيب تشعر أن قامتك ترتفع وتكبر معه، فهو فى صف كتاب الأعمال الخالدة فى الدنيا».

لا أظن أن هناك أمتع من أن تكون صديقا مقرَّبًا من نجيب محفوظ ويوسف إدريس فى آن واحد، وكلاهما يؤمن بما قاله الخال:
إذا مش نازلين للناس فَ بلاش
والزم بيتك
بيتك.. بيتك
وابلع صوتك
وافتكر اليوم ده
لإنه تاريخ موتى
وموتك.



موضوعات متعلقة :


سيرة الخال .. الحلقة الثامنة.. الأبنودى: قابلت "دنقل" أول مرة فى خناقة وانضم إلينا "يحيى الطاهر".. كنت "كاتب جلسة" فى محكمة قنا لكنى استقلت وقلت للقاضى: "ودين أبويا ما أنا كاتب وراك كلمة"

سيرة الخال .. " الحلقة السابعة " .. الأبنودى: طلب منى المخرج حسين كمال كتابة أغانى فيلم «شىء من الخوف» لكنى قررت كتابة السيناريو والحوار!

سيرة الخال .. " الحلقة السادسة " .. عبدالرحمن الأبنودى: لست من محبى أم كلثوم ورفضت أن تغنى لى ثلاث مرات.. فكرهتنى للأبد

◄ سيره الخال .. الحلقة الخامسة .. «الأبنودى»: ذهبت لمحمد رشدى وهو يفكر فى الاعتزال وقلت له «ده زمنك انت مش زمن عبدالحليم».. فعاد بأغنية «تحت الشجر يا وهيبة»

◄ الخال يروى سيرته .. الحلقة الرابعة .. الأبنودى: سرقت كرسى القسيس لأنى وجدته مناسباً لمكتبى.. ولم يخب ظنى أبدًا بفضل بَركة القسيس!!

◄ سيرة الخال .. " الحلقة الثالثة " .. الأبنودى: «أنا عمرى ما كنت مدّعى بطولة.. واللى بيقولوا عليّا مخبر مايعرفوش إيه اللى جرالى لأنى لا أبوح بأسرار مطارداتى»

◄ الخال" يروى سيرته "الحلقة الثانية " : الأبنودى: كنت عضواً فى منظمة شيوعية وأبلغ عنى المسؤول السياسى فدخلت السجن 6 أشهر.. وبعدها قررت أن أصبح حزباً بمفردى!

"◄ الخال" يروى سيرته "الحلقة الأولى" : حصلت على 14 قرشاً من الملك فاروق.. وأخفاها والدى فارتكبت أول جريمة عائلية فى حياتى!.. عملت راعيًا للغنم وعمرى 5 سنوات.. ولم أستخدم الحذاء إلا فى المدارس








أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة