يوسف التلاوى يكتب:الست وجيدة

الأحد، 17 نوفمبر 2013 04:22 ص
يوسف التلاوى يكتب:الست وجيدة صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أجلس فى محطة القطار منتظرا، لا أعلم ما الذى جعلنى أذهب مبكرا عن موعد قطارى وبأكثر من ساعة، جلست منتظرا متأملا كل ما يدور من حولى، وجوه كثيرة وملامح مختلفة، تعبيرات متنوعة تكاد أن تكون كل التعبيرات المتعارف عليها والمذكورة فى القاموس الإنسانى من فرح وحزن وخلافه، أضع فى أذنى سماعات هاتفى المحمول مستمعا لبضعة من المقطوعات الموسيقية محاولا قتل الملل أو ربما محاولا قتل أى شعور بداخلى بالندم على مجيئى مبكرا.

تستأذننى كى تجلس مكانى، لم تجد لها مقعدا خاويا وهى فى سن لا يحتمل الانتظار وقوفا، تركت لها مقعدى وأجلستها، وجهت إلى عبارة شكر مصحوبة بدعوة من القلب، إنها السيدة وجيدة، سيدة عمرها من عمر جدتى تشرفت بالتعرف إليها، وقفت إلى جوارها، حينها كنت أستمع إلى "بحيرة البجع" لتشايكوفسكى وأمارس هوايتى المفضلة بجعل تلك المقطوعة الموسيقية وكأنها موسيقى تصويرية لكل ما يحدث حولى من تناقضات من أناس من مختلف الأطياف.

تمسك يدى بقوة وكأنها تريد شيئا ما، نزعت سماعتى وانتبهت إليها، "أى خدمة"، نظرت إلى وسألتنى "أنت أطرش يا حبة عينى؟"، إنها تلك السماعات التى وضعتنى فى هذا الموقف المحرج، حاولت أن أشرح لها، إنها سماعات هاتفى المحمول حيث إننى أستمع للموسيقى، نظرت إلى كثيرا وهى تحاول أن تستوعب ما أقوله، لم تفهم ولكنها قالت لى إنها تمتلك سماعة هى الأخرى ولكنها لضعف السمع، ثم أشاحت بوجهها بعيدا عنى وهى تقول "افتكرتك محظوظ زى حالاتى".

تفاجأت بتلك العبارة مثلك تماما عزيزى القارئ، "محظوظ إزاى يعنى"، سكوت غريب سيطر على المكان وكأن الجميع قرر أن يصمت انصاتا لحديثها.

"يا بنى أنا مابسمعش من غير السماعة دى أى حاجة، الناس لما بتعرف عنى كدة بتمصمص شفايفها شفقة منهم على حالى، ما يعرفوش أن أنا بكدة حالى أحسن منهم، ببساطة أنا أقدر أتحكم فى اللى عايزة أسمعه واللى مالوش لازمة إنه يتسمع من أصله، يعنى لما حد يجى لحد عندى ويقول كلام ماسخ تلاقينى شيلت السماعة على طول، وأفضل باصة عليه وأضحك، يابنى إحنا فى الدنيا دى ضيوف والمثل بيقول يا بخت من زار وخفف".

تطلب منى أن أساعدها على الوقوف حيث إن موعد قطارها قد حان، قبلت يدها على النصيحة، تركتنى وذهبت.

كنت استمتع حينما أضع مقطوعة موسيقية وأراقب الناس حتى أتت وجيدة، إنها تمتلك موسيقاها التصويرية الخاصة جدا وهى السكون، تبتعد عن كل ما يلوث أسماعنا من سباب وأغانى هابطة وأخلاق غائبة وذلك بنزع سماعتها الطبية كى يتحول كل ما حولها لمجرد صمت، أعلم جيدا أنها لن تقرأ مقالى هذا ولكننى مدين لها بالكثير، بعد حديثها معى أصبحت مؤمنا بأننا مازلنا نحب الجمال ونبحث عن الحق ليس كما يقول البعض بأننا أصبحنا نعشق الإسفاف، أصبحت مؤمنا أننا وفى مقدورنا ألا نسمح لأنفسنا أن نرى أو نسمع أى شىء خارج عن النص، وإن كنا عاجزين عن مواجهة حالة الانحطاط والإسفاف المجتمعى دعونا أن لا نشجعه بمشاهدتنا له من منطلق الفضول، دعونا نبتعد عن كل ما هو فاسد حتى لا يجد له سوقا وينقرض وتبقى الأفكار الصحيحة قوية حية على مر العصور.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة