نقلا عن اليومى..
«أنت هتبقى أشهر وأغنى منى، بس أرجو لما ييجى اليوم ده نكون أصدقاء»!
هكذا قال أمل دنقل لعبدالرحمن عندما كانا تلميذين فى مدرسة قنا الثانوية، يومها ضحك الخال، واعتبرها نكتة، لكنه بكى حين تذكرها فى أثناء زيارته الأخيرة لأمل فى الغرفة رقم 8 بمعهد الأورام، حينها قال له الخال: «أمل.. أنت قلت لى جملة زمان»، فقاطعه أمل دنقل قائلا: «فاكرها»!، فعلق الأبنودى: «أدينا لسه أصدقاء».
رأى عبدالرحمن أمل لأول مرة فى خناقة! وتدخل عبدالرحمن لإنقاذ زميله فى المدرسة، ومرت الواقعة على خير، وتعرَّف عبدالرحمن على أمل وصارا صديقين لا يفترقان، بل صارا أشهر صديقين فى المدرسة الثانوية، واشتركا معا فى فريق التمثيل.
ويضحك الأبنودى حين يتذكر صديقه أمل وهو يؤدى دورا فى إحدى المسرحيات ويقول: «كان يؤدى دوره بحماس شديد، ويندمج وينفعل بشدة لدرجة كانت تجعلنا نموت من الضحك»!
وفى عام 1956 تدرب أمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودى على حمل السلاح!
وقتها أعلنت المدرسة أنها ستقوم بالتعاون مع الجيش بتدريب الطلاب على السلاح حتى يستطيعوا الاشتراك فى المعركة ضد العدوان الثلاثى على بورسعيد الباسلة.
فسارع عبدالرحمن ومعه أمل دنقل بالاشتراك فى التدريب فى «حوش المدرسة»، وبالفعل ظل التدريب قائما عدة أيام حتى أجاد الاثنان التعامل مع السلاح، لكن بعد انتهاء فترة التدريب تم إبلاغهما بأنهما سيعملان فى الدفاع المدنى!
فطغى الحزن على أمل وعبدالرحمن، وشعر كلاهما بأنه يريد أن يعبِّر عن انفعالاته، وأن لديه ما يقوله، فوجد كل واحد منهما نفسه يكتب قصيدة، وكانت أول مرة يكتشف فيها كلاهما أنه يمكن أن يكون شاعرا، وقرأ كل واحد منهما قصيدته للآخر، وكانت القصيدتان باللغة العربية الفصحى، وبعد أن انتهيا من القراءة قالا معا: «طالما شالوا مننا السلاح يبقى هنحارب بالقصيدة».
وفى هذه الأثناء نظمت مدرسة قنا الثانوية حفلا لعيد الأم لأول مرة، فقرر أمل وعبدالرحمن الاشتراك فى الحفلة بقصائد شعر من تأليفهما، وألقى دنقل قصيدته بالفصحى، بينما ألقى الأبنودى شعرا حلمنتيشيا فقال مازحًا:
أهدى إليك تحية بنشاطا
يا من بها فرح الفؤاد وظاطا
أعلنتِ حربكِ على الطبيخ هَزَمْتِه
وغدا الحديد بساحتيك بطاطا
نسخت ثوب الخبز حتى
لم يعد يقوى على إصلاحه خياطا!!
فضجَّت المدرسة كلها بالضحك، لكن بعدها قرر الأبنودى ألا يكتب إلا بالفصحى، ولكن حين ذهب عبدالرحمن إلى قريته أبنود وقرأ شِعره على رفاق المرعى، شعر أنه غريب بينهم، وهم شعروا أنه قد تغيَّر، فكأن جدارا قد أُقيم بينهم.
فى هذه الأثناء التى كان فيها عبدالرحمن ما زال طالبا فى المدرسة الثانوية دخل إلى فصله مدرس قادما من القاهرة، وقال: «أنا اسمى توفيق حنا، وهادرِّس لكم فرنساوى».
كان توفيق حنا بمثابة نقطة التحول الأهم فى حياة دنقل والأبنودى، فقد كان يحكى لهما دائما عن القاهرة، وعن كبار الأدباء والمثقفين، وكان ذلك عالما مجهولا للتلميذين أمل وعبدالرحمن فى هذه التوقيت.
يقول الخال: وفى إحدى المرات كان الأستاذ توفيق عند جامع سيدى عبدالرحيم، ووجد العمال يعملون فى الترعة فقال لى: «يعنى أنت لما تهرج وأنت راجل موهوب وتترك دول ما تعبرش عنهم مش دى تبقى جريمة!»، قلت له: «دول ولاد عمى»، وكان من بينهم «أحمد سماعين»، فقال لى: «يعنى أنت من الناس دى وسايبهم، أمال مين اللى هيتكلم عنهم».
لحظتها قرر الأبنودى ألا يكتب إلا باللهجة التى يفهمها أبناء قريته، وكانت أول قصيدة كتبها بالعامية من أجلهم هى «النَّعش طار».
وترك الأبنودى ودنقل المدرسة، وذهبا إلى جامعة القاهرة، وكان ذلك فى مطلع الستينيات، وحينذاك كانت القاهرة حافلة بكل الأنشطة السياسية والثقافية، وكان الاثنان يذهبان إلى نادى القصة، ورابطة الأدب الحديث، وجمعية الأدباء، ونسيا فى صخب القاهرة أنهما طالبين فى الجامعة، فقد شغلتهما الثقافة عن الدراسة، لدرجة أن الأبنودى حين أرسل إليه والده أربعين جنيها قيمة مصاريف الجامعة، قرر ألا يدفع المصاريف، واشترى بهذه الأموال صندوقا خشبيا ضخما وكتبا من «سور الأزبكية»، وكان ثمن الكتاب قرشا أو قرشين، وأغلى كتاب كان ثمنه خمسة قروش، وحمل الكتب فى الصندوق ووضعها على عربة «كارو»، وأرسلها إلى قطار البضائع، وعاد إلى الصعيد!
وعندما رآه والده الشيخ الأبنودى لم يسأله عن شىء، لكن والدته هى التى تدخلت وقالت لوالده: «عبدالرحمن رجع مش هتشوف له شغل؟» فرد عليها باقتضاب وحسم: «بكرة يغور يروح المحكمة يقابل الأستاذ أحمد مساعد وهو هيشغله».
وذهب الخال إلى الأستاذ أحمد، الذى عيَّنه «كاتب جلسة» فى المحكمة الجزئية فى قنا وعمل بدائرة تختص بنظر دعاوى غير المسلمين، ثم انتقل بعدها إلى دائرة الأحوال الشخصية للمسلمين، ومعظم القضايا كانت لنساء تركهن أزواجهن - على حد تعبير الخال - وكانت النساء يتجمعن أمام مكتب الخال فى المحكمة، وصارت له شعبية كبيرة بين النساء اللاتى يحملن المشكلات، وكان يكتب الشعر على ورق القضايا!
وفى بداية تعيينه ظل لفترة يتنقل بين المحاكم فى الأقصر، ونجع حمادى، وقوص، وكان رؤساؤه يتعنتون معه؛ لأنه «مش موظف كويس»، لذلك عانى كثيرا من الترحال بين مراكز محافظات قنا، وتألم كثيرا مما يحدث له ومعه، خصوصا أنه كان يهرب من المفتشين فى القطارات، ويجلس فوق سطح القطار ذهابا وإيابا، حتى نصحه أحد الركاب الهاربين مثله أن يصطحب معه جلبابا عند الصعود لسطح القطار، ولكنه لم يسمع النصيحة التى أدرك قيمتها حين اعتلى سطح القطار للمرة الأولى.
فقد وجد أكواما من الأتربة غطت قميصه، وبنطلونه حتى أنه وصل إلى المحكمة وملابسه البيضاء صارت سوداء تماما، لكن بمجرد دخوله قاعة المحكمة التقطه رجل يعرف والده، فاصطحبه إلى بيته، ومنحه ملابسه ليرتديها حتى لا يتعرض للوم أو سخرية من القاضى.
كل هذا لم يؤثر على الخال ويجعله يقرر عدم الذهاب إلى المحكمة، لكن حدث ما جعله يستقيل من منصبه!
ففى إحدى المرات جاءت امرأة تشكو زوجها، وقالت للقاضى: «جوزى بيشتغل فى البحر الأحمر فى البترول وتركنى أنا وولدى فحكم لها القاضى بـ180 قرشا»، فهمس الأبنودى فى أذن القاضى، وقال له: «أعرف واحد بيشتغل هناك وبياخد أربعين جنيها فى الشهر».
فتعجب القاضى وكان ودودا - على حد وصف الخال - لكنه صاح فجأة، وقال: «أنت بتقول إيه يا موظف.. أنت هنا قلم»، فرد عليه الخال محتدا: «طيب ودين أبويا ما أنا كاتب وراك كلمة.. دى ست غلبانة وصغيرة عايز تديلها 180 قرش وجوزها بياخد أربعين جنيه.. تروح فين وتعمل إيه؟»!
فصفق الحاضرون للخال إعجابا وتقديرا لشهامته وجرأته فى مواجهة القاضى الذى هدده بالحبس إذا أصر على الحديث دون إذن، هنا قرر الأبنودى أن يستقيل من فوق منصة القضاء - رغم أنه كان مجرد كاتب جلسة - احتجاجا على عدم إنصاف القاضى للمظلومين.
وفى النهاية قدم عبدالرحمن الأبنودى استقالته من وظيفة كاتب الجلسة فى الأول من مارس عام 1962، وكانت الاستقالة مكونة من 16 ورقة، كشف فيها فساد النظام الإدارى داخل المحكمة، ورغم ذلك توسط كثيرون لدى القاضى ليعود الأبنودى إلى عمله، لكن المفاجأة أن الخال هو الذى رفض العودة نهائيا.
وفى نفس التوقيت اتخذ أمل دنقل قراره بالاستقالة من عمله كمحضر لدى المحكمة، وكان من مهام وظيفته أن يقوم بتنفيذ أمر المحكمة بالحجز على ممتلكات الناس، وقد تحمل كما هائلا من السخافات طوال فترة عمله فى هذه الوظيفة ثقيلة الظل.
وعاد الاثنان إلى رشدهما وعادا إلى القاهرة، وظل يناضلان فيها حتى صارا بمثابة معجزة شعرية كبرى، وصار لهما مدرسة ولها مريدون من المحيط إلى الخليج، أحدهما صار من علامات الشعر العامى، والآخر صار يُدرَّس شعره فى أقسام اللغة العربية لطلاب الجامعات.
لكن الأهم أنهما ظلا صديقين حتى الأنفاس الأخيرة فى حياة أمل دنقل، ففى آخر لقاء جمع بينهما فى المستشفى أوصى أمل أخاه عبدالرحمن بأن يدفنه بجوار أبيه، وألا يرضح لضغوط أحد.
لكن المدهش أن أمل دنقل فى هذا اللقاء قبل الأخير قال للخال: «أنا سمعت لك غنوة كنت عاملها لمحمد قنديل فى عيد الربيع وماسمعتهاش تانى، أنا عايز الغنوة دى دلوقتى».
فتعجب الخال وسأله: «اسمها إيه؟»، فقال: «ناعسة».
الغريب أن الأبنودى لم يتذكر الأغنية مطلقا، وسأل عنها كل الملحنين الذين تعاون معهم، حتى وجدها لدى حلمى أمين الموجى، وكانت تائهة وسط الشرائط، وظل يبحث عنها حتى وجدها.
وذهب الأبنودى لأمل، ليسمع الأغنية التى طلبها، وكانت تقول:
ويا ناعسة لا لا.. لا لا
خِلْصِت معايا القِوَالة
والسهم اللى رمانى
قاتلنى لا محالة!!
وكأن أمل كان يقرأ نفسه فى هذه الغنوة، فالسهم قد أصابه، ولا محالة.
ورحل أمل دنقل فى اليوم التالى، وحمله الأبنودى على كتفه إلى قبره، ودُفن كما أوصاه، دون أن يلتفت إلى أحد، وظل الخال كلما ذهب إلى أبنود مرّ على قبر أمل ليقرأ له الفاتحة.
كان الصديقان أمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودى لا يفترقان، وفجأة نزل إلى قنا شاب فى رُفع بوصة الذرة، كأنه خيط حاد شُدّ بالشمع ليستعصى على القطع.
لا يغيِّر لغته حسبًا لنوعية الناس، وإنما يظلون ينظرون إليه فى دهشة كأنه كائن فضائى غريب حطَّ بينهم فجأة بلغة فضائية لا يفهمونها ويتحدث عن مخلوقات أخرى مشابهة له، بينما أهالينا البسطاء يظلون أمامه فاغرى الأفواه يتعجبون من معجزات الله التى أودعها خلقه.
إنسان رقيق مهذب، وكأنه منسوج من حرير، وفى نفس الوقت بركان ثائر يقذف بالحمم دون توقُّف، فهو طفولى لكن تمتزج عبقريته بحب شديد للملاعبات والمداعبات.
عيناه حمراوان كأنه شرب لتوه برميل روم، سبابة يمناه طويلة، ومستعدة لتنغرس فى عين كل من يقول كلمة ضد الأستاذ عباس محمود العقاد.
إنه يحيى الطاهر عبدالله كما يراه ويصفه ويتحدث عنه الخال عبدالرحمن الأبنودى، وللعقاد قصة مع يحيى الطاهر.
فقد كان ليحيى خال شاعر وأديب وأحد حراس ثروة العقاد اسمه الحسانى حسن عبدالله، من هؤلاء الذين إذا انتقدت أو ناقشت فكرة ما للأستاذ العقاد تجده انتفض وتبدلت ملامحه فى الحال ليصير الوجه عصابيا يختلف تماما عن وجه صاحبه.
نقل الحسانى عدوى التحزب العقَّادى فى تلك البيئة الضيقة بقرية الكرنك إلى يحيى الطاهر الذى جاء محصنا بدرعه ممتشقا سيف «الحزب العقادى» وحين بلغنا وأقام معنا وتناقشنا، اتهمناه بالانغلاق وأنه يحفظ «صما» ما لقنه إياه العقاديون، وأن الواجب أن يقرأ الحكيم ومحفوظ وطه حسين كما يقرأ العقاد.
أما أمل دنقل فقد انطلق فى وجه يحيى الطاهر قائلا: «إذن.. ما دمت تعرف كل شىء، وما دام العقاد حشا فمك بكل ذلك الكلام الجاهز فلا أمل فيك، وعليك أن تعود الآن إلى الكرنك لتجد شابا صغيرا نقيا تلقِّنه ما لقنك إياه خالك الحسانى، لا تضيف إليه ولا تُنقِص، لتخرج إلى الحياة مثل والدك ووالدى ووالد عبدالرحمن مستريحا تماما إلى ما أجهد الآخرون أنفسهم فى تحصيله لتتلقفه أنت بعقل جامد وتسلمه إلى غيرك بنفس الجمود والبرود».
بينما قال له الأبنودى: «لقد قرأنا العقاد يا أخى قراءة جماعية واستفدنا من وعيه بالعلم والفلسفة وعلم النفس وحتى بالاقتصاد ناهيك عن التاريخ، لكننا فى الوقت نفسه قرأنا من طه حسين إلى أنيس منصور».
واحتار يحيى الطاهر حيرة شديدة بين ما سمعه من أمل وعبدالرحمن، وما حفظه وشبَّ عليه طوال حياته، لكنه حسم أمره، وهضم كل رأى، فصارت له ذائقة نادرة يرى مواضع الجمال الخفية ويكتشف مَواطن الضعف.
هكذا ظل يحيى الطاهر مذ أول مرة رآه فيها الخال عبدالرحمن الأبنودى.
حينذاك دَقَّ الباب.
قالت فاطمة قنديل: «عاوز إيه؟» قال: «عاوز عبدالرحمن»، سألته: «أنت مين؟» قال: «جوليله يحيى الطاهر عبدالله»، فشدَّت فاطمة قنديل «السُّقاطة» ليدخل!!
ومر يحيى الطاهر من الباب، واستقر فى إحدى الغرف، فدخل وقعد وولع سيجارة، وقرر ألا يغادر هذا البيت أبدا دون أن يدعوه أحد أو يستأذن من أحد.
وجلس يحيى الطاهر، وحصل على حقوق لم يحصل عليها عبدالرحمن ذاته، لدرجة أنه كان يدخل فى نقاشات عنيفة مع أبناء الشيخ الأبنودى الكبار، وينتقدهم علنا حتى ضاقوا به، لكنه لم يكن يحس ذلك، فقد كان يعتقد أنه يرى الحقيقة، وعلى الجميع أن يروا ما يراه وإلا كانوا متخاذلين لا يبغون تطوير أنفسهم، وذهبت محاولات الخال لإسكاته سُدى، بل إنه كان يتعجب حين يقول له الخال إنه يجب أن يتصرف باعتباره ضيفا سوف يرحل آجلًا أم عاجلًا.
وكان يردّ على الأبنودى بهدوء شديد قائلا: مَن قال إننى سوف أرحل؟ ثم إن إخوتك لا يملكون الحق فى الضيق بى لأننى فى هذا البيت أسلك فى إطار حقوقك أنت، إذ إننى أنت، وإذا لم يكن يعجب أبناء الشيخ وجودى بينهم فليرحلوا!
راقبه أبناء الشيخ الأبنودى أياما ثم قرروا أنه مجنون، وأنه ليس من الطبيعى لرجل لا نعرف عنه شيئا أن يصبح عضوا دائما فى البيت يعرف أسراره، ويحضر الشجارات ويتدخل فيها وينحاز إلى جانب ضد جانب، ويفعل ما يشاء وقتما يشاء.
هكذا أقام يحيى الطاهر فى بيت الشيخ، كأنه نزل إليهم بالبراشوت لينزرع فى قلب أمل وعبدالرحمن دون سابق معرفة أو إنذار، كأنه يحيا بينهم منذ ولادتهم.
يحيى الطاهر شخصية بديعة ومبدعة لكنه أيضا - مثل أفذاذ كثيرين - به مَس من جنون، فذات يوم قرر أن يترك عمله، ويتفرغ للقراءة!
وذهب إلى أمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودى ليبلغهما القرار، حينها ثار أمل فى وجهه ثورة عنيفة.
وإذا بيحيى يقول: «طب وفيها إيه يا أمل؟ فيها إيه يا خيّى؟ أنا جيت من الكرنك عشان أشوفكم أنتو ولا عشان الوظيفة؟ يجطع الوظيفة واللى يعوز الوظيفة».
قال أمل: «وكيف تأكل وتشرب وتدخن هذا الكم من السجائر التى لا ندخنها مجتمعين؟».
ويرد يحيى: «إهدا بس يا خيّى.. الأكل والشرب عند الحاجة أم عبدالرحمن، الأكل فى بيت الشيخ الأبنودى يكفى جَبيلة، أما عن الدخان فمتآخذنيش ده أنت أبو الكرم، مثلا علبة السجاير دى جابها لى مصطفى الشريف».
ويصرخ أمل قائلا: «وكمان عرفت مصطفى الشريف؟ إمتى وفين؟».
يقول يحيى الطاهر: «لقيته فى الندوة واتكلمت معاه، وكلمة من هنا وكلمة من هناك لقيت الراجل حبّنى وراح اشترالى علبتين سجاير».
المدهش أن يحيى الطاهر كان قد ترك عمله قبل أن يحزم حقائبه ويحملها إلى قنا، لكن كان يدرك أن هذا القرار سيتسبب فى ثورة ضده لذلك كتمه فى قلبه، ولم يبلغ به أحدا، بل ادَّعى أنه انتقل للعمل من وزارة الزراعة فى الأقصر إلى قنا حتى يقتنع الجميع بما فعله.
مذ ذلك الوقت صار عبدالرحمن وأمل وثالثهم يحيى الطاهر لا يفترقون أبدا يأكلون ويشربون ويسهرون معا إلى أن رحل يحيى فرثاه الاثنان.
قال عنه أمل:
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يَمُتْ
هل يموت الذى كان يحيا
كأن الحياة أَبَدْ
وكأن الشراب نَفَدْ
وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد!!
بينما رثاه الأبنودى فى «عدُّودة تحت نعش يحيى الطاهر عبدالله» قال فيها:
يا يحيى يا عجبان يا مليح
يا رقصة يا زغروته
إتمكن الموت من الريح
وفِرْغِت الحدوتة
آخر حروف لابجديَّة
أول حروف اسم يحيى
للموت كمان عبقرية
تموت لو الاسم يحيى
المدهش أن عبدالرحمن الأبنودى ويحيى الطاهر وُلِدا معا فى شهر إبريل من عام 1938 ولكن الأبنودى أتى إلى الدنيا قبل يحيى الطاهر بتسعة عشر يوما فقط، أما أمل دنقل فقد جاء إلى الدنيا بعدهما بعامين، ولكن الثلاثة صاروا أعلاما شامخة وعلامات بارزة فى تاريخ الشعر والأدب.
لكنها صدفة عجيبة ومذهلة أيضا أن يمنح الجنوب ثلاثة على هذا القدر من العبقرية والتفرد فى زمن واحد، شاعران فذَّان، وأديب متفرد، إلا أنهم من كثرة «العِشرة» و«العيش والملح» صاروا ثلاثة شعراء حين لُقب يحيى الطاهر بشاعر القصة القصيرة، ورثاه يوسف إدريس قائلا عنه: «النجم الذى هوى».
موضوعات متعلقة :
سيرة الخال .. " الحلقة السادسة " .. عبدالرحمن الأبنودى: لست من محبى أم كلثوم ورفضت أن تغنى لى ثلاث مرات.. فكرهتنى للأبد
◄ سيره الخال .. الحلقة الخامسة .. «الأبنودى»: ذهبت لمحمد رشدى وهو يفكر فى الاعتزال وقلت له «ده زمنك انت مش زمن عبدالحليم».. فعاد بأغنية «تحت الشجر يا وهيبة»
◄ الخال يروى سيرته .. الحلقة الرابعة .. الأبنودى: سرقت كرسى القسيس لأنى وجدته مناسباً لمكتبى.. ولم يخب ظنى أبدًا بفضل بَركة القسيس!!
◄ سيرة الخال .. " الحلقة الثالثة " .. الأبنودى: «أنا عمرى ما كنت مدّعى بطولة.. واللى بيقولوا عليّا مخبر مايعرفوش إيه اللى جرالى لأنى لا أبوح بأسرار مطارداتى»
◄ الخال" يروى سيرته "الحلقة الثانية " : الأبنودى: كنت عضواً فى منظمة شيوعية وأبلغ عنى المسؤول السياسى فدخلت السجن 6 أشهر.. وبعدها قررت أن أصبح حزباً بمفردى!
"◄ الخال" يروى سيرته "الحلقة الأولى" : حصلت على 14 قرشاً من الملك فاروق.. وأخفاها والدى فارتكبت أول جريمة عائلية فى حياتى!.. عملت راعيًا للغنم وعمرى 5 سنوات.. ولم أستخدم الحذاء إلا فى المدارس
سيرة الخال .. الحلقة الثامنة.. الأبنودى: قابلت "دنقل" أول مرة فى خناقة وانضم إلينا "يحيى الطاهر".. كنت "كاتب جلسة" فى محكمة قنا لكنى استقلت وقلت للقاضى: "ودين أبويا ما أنا كاتب وراك كلمة"
الأحد، 17 نوفمبر 2013 09:07 ص
الأبنودى
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
roro
الخال
حكا يات ممتعة وشيقةواسلوب سلس
عدد الردود 0
بواسطة:
ماهر
الله يعطيك الصحة يا خال
لاتعليق