خالد صلاح

خالد صلاح يكتب: هل قتل الراهب المسيحى تنيناً بسبعة رؤوس؟.. قراءة سياسية وتاريخية فى «سيرة ابن هشام»

الأربعاء، 13 نوفمبر 2013 09:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لن تنجو مصر أو بلدان العالم الإسلامى من أفكار التطرف، ولن تسلم من خلط الدين بالسياسة، وخلط السياسة بالقرآن، وخلط القرآن بالجماعة، وخلط الجماعة بالسلطة، ثم خلط كل ذلك مع الله جلّ فى علاه، إلا إذا تشجعنا على مواجهة الموروثات المجهولة المصدر فى كتب التراث الإسلامى.

العقدة ليست فى جماعة الإخوان المسلمين، والمأساة ليست فى تنظيم القاعدة، أو جماعات التكفير والهجرة، أو خلايا العنف النائمة أو اليقظة فى القاهرة أو المحافظات، فهذه جميعها ظواهر عارضة لمرض أكبر يسكن عشرات المجلدات ضمن المكتبة الإسلامية المتوارثة عبر العصور، والتى لم تتجرأ المؤسسات الدينية على تحقيقها علميًا، أو مراجعتها وضبطها وفق القرآن الكريم، أو وفق صحيح السنة. بعض هذه المراجع يتضمن نصوصًا كاملة تعارض آيات القرآن، وبعضها أيضًا يتضمن أحكامًا تخالف صحيح السنة الفعلية التى انعقد عليها الإجماع عن النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، ومع هذا يتم التعامل مع هذه المجلدات بتقديس بالغ، مع تسليم مبالغ فيه بصحة ما ورد فيها، وبعض هذه المجلدات أيضًا يستند إليها باحثون وعلماء ودعاة على المنابر، وكأنها الوحى الذى لا ينطق عن الهوى، رغم أنها تتضمن أساطير لا يمكن إثباتها علميًا، أو التيقن منها بين صفحات التاريخ، كما أن بعضها ينسب أفعالًا فى حكم المعجزات لأشخاص لا يمكن أن تنطبق عليهم شروط الإعجاز الممنوح من الله تعالى للرسل والأنبياء دون غيرهم من بنى البشر.

أستند هنا إلى مثال صارخ من كتاب تراثى واسع الشهرة، وعظيم الأثر لكل من يقرأ تاريخ النبى محمد، صلوات الله عليه، وهو «سيرة ابن هشام»، وهو كتاب فى سيرة النبى محمد يرويه عبدالملك بن هشام، المتوفى عام 213 هجريًا، هذا الكتاب لا تخلو منه مكتبات الدعاة، وتنتشر قصصه عن سنوات النبوة وما قبلها فى جميع منابر مصر والعالم الإسلامى، وتتعامل معه دراسات الدكتوراة فى الجامعات الإسلامية باعتباره مرجعًا أصيلًا لسيرة النبى، صلى الله عليه وسلم، ولأحوال العرب قبل النبوة، ومع هذا فإن نصوص هذا الكتاب تطل عليك بمجموعة من القصص الأسطورية عن السنوات التى سبقت ميلاد النبى، وهى قصص لا يبدو أنها خضعت لأى نوع من التحقيق أو الضبط وفق المفاهيم القرآنية، أو وفق ما نؤمن به نحن المسلمين عن الأحوال الدينية للعرب قبل الإسلام.

يروى الكتاب فى صفحاته الأولى مثلًا قصصًا عن مجموعة من الأحبار اليهود من يهود بنى قريظة ذهبوا إلى اليمن قبل ميلاد النبى بسنوات قليلة، وكان اليمن آنذاك يعبد النار، وكان لدى اليمنيين نار يحتكمون إليها ليميزوا بين الحق والباطل، وبين الصواب والخطأ، وعندما عرض عليهم أحبار اليهود تعاليم شريعتهم قرر اليمنيون أن يحتكموا إلى النار، فإن كان الأحبار على حق آمنوا بهم، وإن كانوا على باطل أحرقتهم النار. ويذهب صاحب هذه السيرة إلى التأكيد فى كتابه على قصة تقترب من قصة سيدنا إبراهيم، عليه السلام، إذ يؤكد أن الأحبار اليهود خرجوا يناظرون الكهنة الوثنيين فاحتكموا إلى النار، ولما دخلوا هذه النار خرجوا منها سالمين لم يحدث لهم شىء إلا بعض العرق من تأثير الحرارة، ثم فرت النار هاربة من الأحبار دون أن تمسهم بسوء، فهلعت قلوب اليمنيين، وساهمت هذه الواقعة فى انتشار اليهودية فى اليمن! «راجع كتاب سيرة ابن هشام طبعة دار التقوى الصفحة 15».



لاحظ هنا أن الكاتب يروى هذه القصة باعتبارها قبل سنوات قليلة من ميلاد النبى، وبعد مئات السنين من بعثة السيد المسيح، عليه السلام، أى فى الوقت الذى كانت فيه المسيحية، والإسلام من بعدها، يحكمان بانحراف أحبار اليهود عن الهدى الربانى الذى نزل على موسى، وتضليل الناس، وتشويه العقيدة السماوية.

ولاحظ أيضًا أن منطقة نجران- مثلًا- كانت تدين بالديانة المسيحية فى هذا الوقت، كما يذكر الكتاب، أى أن هذه الواقعة حدثت فى الوقت الذى جاءت فيه المسيحية لتصحح الديانة اليهودية، وترد أصحابها إلى صحيح الاعتقاد، ومن هنا يريد لنا الكاتب أن نصدق أن هؤلاء الأحبار اليهود جرت بين أيديهم معجزة مثل معجزة إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه، دون أن يقدم لنا أى دليل تاريخى سوى «العنعنة»، ودون أن يتأمل فى أهلية هؤلاء الأحبار اليهود فى تلقيهم معجزة من السماء بهذا القدر الخارق، بينما هم يحرفون الكلم عن مواضعه، كما قال القرآن الكريم.

يروى كاتب هذه السيرة تلك الواقعة دون تعقيب عليها، وينسبها إلى سلسلة من «العنعنة» التاريخية التى توهم القارئ بأن هذه القصة موثقة، نظرًا لسلسلة رواتها عبر التاريخ، فى حين جاء النبى محمد، صلوات الله عليه، بعد أربعين أو خمسين عامًا من هذه الواقعة ليعيد تصحيح اليهودية والمسيحية معًا، فكيف يمكن أن تجرى هذه المعجزة على أيدى أحبار يهود، وهم آنذاك يسلكون الطريق الخاطئ، ويكذبون على الله تعالى، ويقتلون الأنبياء، ويحرّفون الكلم عن مواضعه، ويشترون بآيات الله ثمنًا قليلا، كما يقول القرآن الكريم؟.. هل يمكن أن نصدق قصة يرويها كتاب تاريخى وهى تتعارض جملة وتفصيلًا مع كتاب الله، وسنة نبيه الكريم على هذا النحو الأسطورى الذى ينسب فيه صاحب السيرة قصة بهذا القدر من الإعجاز لأحبار لم يعرفوا من الدين إلا اسمه، وضلوا الطريق إلى الله تعالى؟

هذه ليست الواقعة الوحيدة التى تدفعك إلى التساؤل عن مصداقية الروايات التى تتضمنها «سيرة ابن هشام»، فالكتاب نفسه يروى واقعة أخرى فى زمن أقرب إلى ميلاد النبى محمد، ويحكى قصة عن راهب مسيحى اسمه «فيميون» يعد هو مصدر انتشار الدين المسيحى فى نجران، هذا الراهب تروى عنه «سيرة ابن هشام» أنه كان يمشى فى الصحراء، وصادفه «تنين بسبعة رؤوس»، هكذا يقول الكاتب بكل بساطة، وكأن التنين ذا الرؤوس السبعة حيوان حقيقى يمكنك أن تصادفه بشكل طبيعى فى شبه الجزيرة العربية، وليس كائنًا أسطوريًا لا أصل له فى الحقيقة.. وللأسف فإن كتاب «سيرة ابن هشام» يتعامل بهذا الأداء الطبيعى مع ظهور التنين ذى الرؤوس السبعة لهذا الراهب المسيحى، وينسب القصة بالكامل إلى سلسلة من الرواة، ليضيف إلى الواقعة المزيد من الثقة والدقة، ولا يكتفى بظهور التنين، لكنه يؤكد أن هذا الراهب المسيحى دخل فى صلاة طويلة حتى سقط التنين أمامه دون أن يمسه بسوء، فى معجزة لا تتناسب إلا مع الأنبياء المرسلين من الله تعالى وحده، ولا تستقيم إلا مع رجل صالح يتبع الطريق الحق نحو الله تعالى، وليس مع راهب يتبع آنذاك دينًا حكم عليه القرآن الكريم لاحقًا بأن بعض أصحابه حرّفوا الكلم عن مواضعه، ونسبوا إلى الله ما ليس فيه سبحانه وتعالى. «اقرأ نفس الكتاب بنفس الطبعة عن دار التقوى صفحتى 17 و18»

القصتان هنا، الأحبار اليهود الذين يشهد لهم كتاب سيرة ابن هشام بمعجزة النار، ثم الراهب المسيحى الذى يشهد له الكتاب بمعجزة قتل التنين ذى الرؤوس السبعة، يتعامل معهما ابن هشام على نحو طبيعى، وبلا أى تشكيك، كأنهما قصتان حقيقيتان لا لبس فيهما، ولا جدال على حدوثهما عمليًا قبل سنوات قليلة من ميلاد النبى محمد ليكون عنوانًا لتصحيح الضلال الذى أقحمه الأحبار على رسالة السماء، وليكون سهمًا فى قلب التجارة بآيات الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، كما يخبرنا القرآن الكريم، فكيف إذن يواجه القرآن الأحبار والرهبان فى الجزيرة العربية وينسب إليهم كل هذا التحريف والتضليل فى العقيدة؟، ثم كيف يقدم لنا ابن هشام فى الصفحات الأولى لكتابه قصصًا إعجازية لهؤلاء الأحبار والرهبان؟!

ثم كيف يمكن أن نصدق بعد ذلك ما يرويه ابن هشام فى بقية صفحات هذه السيرة، بحلوها ومرها؟، وكيف يمكن أن نطمئن إلى المنهج العلمى الذى اعتمده صاحب هذه السيرة فى كل ما يرويه عن حياة النبى محمد، صلوات الله عليه، وعن صحابته الكرام، رضوان الله عليهم؟
لاحظ هنا أننى قدمت إليك قصتين من الصفحات الأولى تتعلقان بمعجزات خارقة لأحبار ورهبان لا تتناسب مع ما أتى به القرآن الكريم نفسه، بل لا تتناسب مع حرص الله تعالى على أن تكون معجزات النبى محمد مختلفة عن معجزات من سبقوه من الرسل. وإذا كان الله تعالى لم يشأ أن تكون معجزات محمد مثل معجزات نوح فى الطوفان، أو إبراهيم مع النار، أو موسى مع انشقاق البحر، أو المسيح مع إحياء الموتى، فكيف يمكن أن يمنح معجزات مماثلة لأحبار وكهنة قال عنهم القرآن الكريم إنهم حرّفوا شريعة الله، وبدّلوا عقيدته الوحدانية؟!



هاتان القصتان تمثلان إشارة إلى غياب التدقيق العلمى والتاريخى فى كتاب «سيرة ابن هشام»، وإذا فاجأتك هنا، آسفا، أن كثيرا من الشبهات التى يلقيها أعداء الإسلام على النبى محمد ينسبونها أحيانًا إلى كتب من عينة هذا الكتاب، عن قصص غير موثقة، أو عن تفاصيل أسطورية تتعامل معها هذه المراجع باعتبارها حقائق، فى حين يستثمرها أعداء الإسلام فى طعن هذا الدين، وتلويث السيرة العطرة للرسول الكريم.

كيف يمكن أن نصدق هنا كثيرًا من هذه النصوص، وفيها ما يتعارض مع القرآن الكريم؟، وكيف يمكن أن نستمر فى اعتماد بعض هذه الكتب كمراجع موثقة رغم ما تتضمنه من أساطير غير حقيقية، أو معلومات مرتبكة لا أصل لها علميًا؟، أضف هنا أن كثيرًا من القصص التى تستند إليها جماعات التكفير أو التنظيمات التى لا ترى فى هذا الدين سوى السلطة والبطش بالآخرين مستمدة من هذا النوع من الكتب غير العلمية، والروايات غير المحققة تاريخيًا.. الإسلام بكامله إذن يتعرض للتشويه، ليس من أعدائه فحسب، بل من الداخل أيضًا عبر هذه المراجع التى لم تخضع لأى مراجعة تاريخية، أو نقد خلاق، أو مطابقة مع صحيح الكتاب والسنة النبوية.

كتاب «سيرة ابن هشام» ليس وحده الذى يحتاج إلى التقييم والتحقيق والمراجعة، فالمكتبة التراثية تضم عشرات الكتب التى نحترمها نحن، ونعاملها بإجلال لأن صفحاتها صفراء، ولأننا ربما لم نعرف مراجع غيرها، أو لأن أيدى خبيثة أرادت أن تبقى بعض هذه الروايات عمدًا ضمن التراث الإسلامى ليدمر أصحاب هذا الدين أنفسهم بالمفاهيم الخاطئة، والقصص الأسطورية غير الدقيقة.

لا تندهش إذن إذا فاجأك أحد هؤلاء الذين يستخدمون الدين للوصول إلى السلطة، أو للهيمنة على المجتمع بقصص ينسبها إلى صحابة أجلاء لا أصل لها فى الحقيقة، ولا سند لها إلا بعض هذه المراجع غير المحققة علميًا.. الأزمة هنا إذن فى هذه المكتبة الكبيرة، هذه المكتبة التى ربما خضعت للعشرات من عوامل التعرية السياسية فى عصور مختلفة عبر التاريخ الإسلامى، أو ربما خضعت أيضًا لعمليات تزوير منهجية لإبقاء أصحاب هذه الرسالة الخالدة أسرى الأساطير التى تتعارض مع القرآن الكريم.

يؤسفنى أننى اطلعت شخصيًا على بعض الكتابات لمفكرين غربيين كانوا يشككون فى الإسلام، وفى الرسالة المحمدية، ويستندون للأسف لقصص تاريخية تتضمنها «سيرة ابن هشام»، أو لروايات تضمها كتب مرموقة لدينا الآن، نعاملها نحن بكل تقديس، فيما تحتوى فى باطنها نصوصًا خارجة عن العقل، وتقدم لخصوم هذا الدين ما يستندون إليه من شبهات..

ويؤسفنى أيضا أننى قرأت عشرات التفسيرات والفتاوى فى فقه العنف، والعمل المسلح لدى الجماعات الإسلامية، تستند جميعها تقريبًا إلى مراجع فكرية تراثية من هذه العينة التى لم يتم تحقيقها تاريخيًا، وإلى هذه القصص التى ينسبها البعض إلى النبى، أو إلى صحابته الكرام دون أن نفكر نحن ولو دقيقة هل يمكن أن يكون الصحابة قد فعلوا ذلك بالفعل أم لا، ودون أن نتأمل حقيقة المناهج العلمية التى اعتمد عليها بعض المؤرخين أو الفقهاء أو رواة الحديث فى زمن كان العلم ينتقل فيه شفاهة، وكانت القصص تختلط بين الحابل والنابل، وبين الرواة العرب المسلمين والرواة الإسرائيليين الذين دسوا عشرات الآلاف من الأحاديث، ودسوا بجانب ذلك مئات الآلاف من الوقائع التاريخية التى تتعارض مع القرآن الكريم.

وطالما ظلت بعض هذه المراجع الإسلامية تنعم بقدسية مفرطة لدى الخاصة والعامة من المسلمين دون أن نسأل أنفسنا من كتبها، ولماذا، وما مدى صحة المعلومات الواردة بها، فإننا سنبقى أسرى أفكار التطرف الدينى، والخلط بين الدنيوى والمقدس أبدًا ما حيينا، وسنبقى كذلك فى حرب دائمة مع الإرهاب ومع التطرف، وسنبقى كذلك فى خندق الدفاع عن الرسالة المحمدية، وعن القرآن الكريم تحت قهر هذه المعلومات المغلوطة المنسوبة إلى هذا الدين العظيم ضمن هذا الأرشيف التراثى الذى لم يتم تحقيقه، ولم يتم إخضاعه لمنهج علمى صحيح للتمييز بين الخبيث والطيب فى محتواه التاريخى.

نحن فى حاجة إلى عملية جراحية واسعة تقتلع جذور «تقديس» بعض الكتب التى تجعل من التطرف دينًا، ومن الأساطير عقيدة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 10

عدد الردود 0

بواسطة:

ahmed diab

مقال جميل

عدد الردود 0

بواسطة:

محمد عبدالهادي

المراجع التاريخيه

عدد الردود 0

بواسطة:

عبدالله محمد

ما علاقة هذا الموضوع بما يحدث

عدد الردود 0

بواسطة:

مراقب

إلى الهدى ءإتنا

عدد الردود 0

بواسطة:

د.شعراوى محمود حسن

كل شيء كان يحدث قبل الاسلام

عدد الردود 0

بواسطة:

Ali

ابن هشام اخذ عن ابن اسحاق

عدد الردود 0

بواسطة:

صقر قريش

علشان كده لا دين في السياسه

فوق

عدد الردود 0

بواسطة:

Elias M.Elias

بدون زعل

عدد الردود 0

بواسطة:

عبدالله محمد

؟؟ظ

عدد الردود 0

بواسطة:

muhammed

ليس المجال الان

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة