محمد جاد الله

ماكينة العدالة الانتقالية

الجمعة، 04 أكتوبر 2013 10:06 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كتبت كما كتب كثيرون غيرى وقت الرئيس المعزول محمد مرسى وإدارته العجيبة لنؤكد أن العدالة الانتقالية هى المفتاح الوحيد لاستقرار مستقبل السلم المجتمعى، لكنهم كانوا كالسائرين نياماً فى خطة تمكين عبثية لا نجاح مستقبلى لها بحال فى المجتمع المصرى التعددى، فانقلب العبث إلى كارثة أودت بحياة المئات، وأدت إلى أحداث مجتمعية جسام قذفت بمصر سياسياً عقوداً إلى الوراء..

وفى التحرير ألقى مرسى سؤاله البلاغى: وما أدراك ما الستينيات؟
الآن أدرك كأحد المنتمين لأجيال ولدت بعد الستينيات إلى حد كبير ماهية الحالة آنذاك، فهى لا تخرج فى سياقها الذى كان يعنيه عن حالة صراع على السلطة وانقسامات مجتمعية وسياسية لا مجال فيها لعدالة انتقالية، وكان غيابها هو ما أدى بدوره إلى حتمية هذا الصدام الذى نعيش الآن تبعات تراكماته.

ذلك لآن رئات الذين عانوا من تبعات الظلم المجتمعى وانتهكت حقوقهم الإنسانية، قد تكلست من فرط شدة التهاب مجتمعى مكتوم، سببه الانتهاك المنظم لحقوق الإنسان الذى لا علاقة له تربطه بحتمية تطبيق القوانين، ولا أجد علاج له فى الحالة المصرية إلا باستنشاق هواء العدالة الانتقالية، الذى يختنق السلم المجتمعى بغيابه.

فبدون تحقيق مبادئ العدالة الانتقالية على أرض الواقع، سوف يظل استقرار الوطن الذى يؤوينا جميعاً مختلاً، وستتكرر خلال السنوات القادمة حالة الثنائية المريرة: "تسلم الأيادى، وتتشل الأيادى"، مرات عدة، وذلك مع استمرار تبادل المنشدين من الجانبين لمواقعهم.

جاءت الإدارة الحالية معلنة عن خطة لتفعيل تجربة مصرية فى العدالة الانتقالية، واستُحدثت وزارة طالما نُودِى بإنشائها كوزارة دولة، افترضنا فيها ألا تكون مجرد هيكلية روتينية، وأن تضم الكفاءات القادرة على إنشاء البنية الأساسية للعدالة الانتقالية، وقيل من قِبل الرئاسة للمجتمع المدنى صراحة: شكراً لمبادراتكم فى هذا الشأن.. الدولة ستتولى القيام بمهمة تحقيق السلم المجتمعى.

انتظرنا أن تملئ وسائل الإعلام الدنيا ضجيجاً عن خطوات تفعيل لمنظومة العدالة الانتقالية، فلم نجد إلا كلاماً منمقاً يقال فى المؤتمرات والاجتماعات وأمام الكاميرات، لكنه لا يحوى فى نظر الخبراء إلا أطر جوفاء.

لهذا أتسائل والأزمة المجتمعية تتفاقم يوماً بعد يوم: وماذا الآن؟ وقد تحولت العدالة الانتقالية إلى ما يشبه كرة لهب، لا يقدر نظام يحكم مصر على يتلقفها ويتعامل معها كقضية حياة أو موت.

ألم يأن لمن فى الحكم بعد كل تلك التجارب أن يتعامل مع واقع مفاده، أن شأن العدالة الانتقالية يجب أن يخرج من جدليات وتنظير القاعات المغلقة، والأفكار الهيكلية الخاوية، لتتحول من خلال منظومة مجتمعية محكمة إلى ماكينة عمل جبارة يُجَّيش لها المئات من الباحثين والكفاءات الخبيرة فى أسرع وقت ممكن، ليكون لوقع مجرد الإعلان عن وجودها على أرض الواقع أثره، كأمل ونذير شفاء لصدور الضحايا، وفى الوقت ذاته كنذير حساب ثقيل لمنتهكى حقوق الإنسان؟

نعلم أن شروع أى نظام يحكم مصر فعلياً فى تكوين تلك الماكينة والتبشير بقدراتها باليات لا مركزية تغطى كافة محافظات الجمهورية، سيكون له أثراً يماثل العلاج الكيماوى الذى يثير جنون الخلايا السرطانية فى جسد المجتمع، وهم الذين اتخذوا من ظلم وامتهان وهضم حقوق الآخر وكرامته الأنسانية إسلوب حياة.

ونعلم أن هناك شبكات مجتمعية محكمة من منتهكى حقوق الإنسان تقف بالمرصاد لإجهاضها، قبل أن تتشكل ملامحها.

كما نعلم من خلال شواهد لا يمكن تجاهلها أن المنتهكين للحقوق وأصحاب السوابق المستترة القريبين من دوائر النفوذ سوف يستمرون فى العمل الدؤوب من أجل إعاقة عمل أو تخريب تلك الماكينة جبارة الأثر حال تكوينها.. ففيها نهايتهم.

لكننا نعلم فى الوقت ذاته أن تلك الماكينة المجتمعية المنشودة هى التى سوف تربط مفهوم الوطنية باحترام إنسانية الشعب من خلال قوانين وتشريعات وفعل على أرض الواقع، وذلك لأول مرة فى تاريخ الدولة المصرية الحديثة.

نجاح الرئاسة الحالية وإن كانت مؤقتة فى تدشين ماكينة العدالة الانتقالية المعقدة فى آسرع وقت ممكن، هى مهمة قومية لا تقل أهمية عن نجاح جيشنا فى إحكام سيطرته على التراب الوطنى فى سيناء.

ولأنه من المعلوم أنه لا يوجد فى مصر حالياً التزاماً دستورياً، أو حتى هيكل ديموقراطى ديكورى يقيد أيادى من فى السلطة، أو يحد من صلاحياتهم المطلقة التى تفوق صلاحيات كل من سبقوهم فى الحكم بعد الثورة، فإننى أجد أن مسؤوليتهم التاريخية عن هذا الأمر أكبر بكثير من سابقيهم.

والواجب الوطنى يقتضى ممن يمتلك السلطة والصلاحيات أن يهيئ لأجهزة الدولة تفويض حرب لا هوادة فيها ضد من يميعون قضية العدالة الانتقالية، تماماً كما تخوض الجيوش حروب التحرير من أجل أن تحقق سلم ومستقبل حياة لمواطنيها.

أسموها العدالة "الانتقالية" لأنها تنقل المجتمعات التى عانت تبعات السلطوية أو الفاشية أو العنصرية إلى المستقبل.

وبدونها لا يملك المجتمع المصرى حيزاً للانتقال إلا تجاه الماضى،
تلك كلمات أخيرة أكتبها فى شأن العدالة الانتقالية، حتى ألمح بادرة تفعيل حقيقية، وأنبه أن الأوان لن ينتظرنا كثيراً قبل أن يفوت.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة