ما زال الفعل الثورى أبداً حائراً بين الممكن والموجود. وفى ظلال هذه الحيرة يظن البعض أن الفعل الثورى حين يقع فى مجتمع من المجتمعات فلابد أن يؤتى أكله فور وقوعه، وتتساقط ثماره الناضجة فوق رؤوس الثوار، وهم يستظلون بأوراقه اليانعة، ويتنسمون أريج أزهاره المتناثرة، والنسائم الطرية تداعب خصلات الشعر الثائر فوق جبين الثوار وهم يتطلعون إلى الآفاق الرحبة، والمستقبل الذى يفتح لهم ذراعيه مرحباً بهم. ويستوى ميزان الأمور والأشياء على الصراط المستقيم وفقاً لمقتضى الفعل الثورى واتجاهه وحركته، آخذا بيد التاريخ مندفعاً به للأمام. قد نسى هذا البعض أن الفعل الثورى فى انتقاله من الممكن إلى الوجود فى حاجة إلى حرث التربة وتقليبها وتهويتها وتشميسها، حتى يتسنى بعث الحياة فيها من جديد، وأثناء ذلك سيكتشف الثوار أن هناك حشرات وديدان كانت تعيش فى باطن المجتمع دون أن ينتبه إليها أحد، طفيليات متطفلة تمتص رحيق الفساد وتتعيش به وتحيا فى أكنافه. لا ريب أنها ستقاوم التغيير الذى يهدف إليه الفعل الثورى مقاومة الوجود والعدم. عش الدبابير الذى اقتحمته يد الثورة كى تقوض وجوده لابد وأن تنالها الأذناب باللسع حتى ولو كان ذلك فعل الانتحار. وهكذا يظل الفعل الثورى بين شد وجذب، بين مد وجذر فى صراع الوجود والعدم بين إرادة الموت وإرادة الحياة، إرادة الهدم وإرادة البناء، ولا شك أن الفعل الثورى سينتصر لأنه يمثل إرادة الحياة. فثورة يناير قامت ضد نظام فاسد فاحت من أكنافه روائح العفن والعطن حتى أزكمت الأنوف، وخرج من أحشاء المجتمع الحشرات والديدان والطفيليات التى امتصت دماء المجتمع ونخاع عظامه فلم تبق له ولا منه شيئاً.
وأثناء الانشغال بالحرث والتطهير انقضت خفافيش الظلام فى غفلة وسذاجة وحسن نية من الثوار واختطفت الثورة والثوار، واختطفت المجتمع دون أن يخط محراث الثورة فيه خط، تركة آلت إليهم فى غفلة من الزمن، واتسقت إراداتهم وحركاتهم وسكناتهم على الإبقاء عليها كما هى دون تغيير، غير مدركين أنه لم يعد فيها ما يمكن امتصاصه من دماء ونخاع، وأن فسادهم واستبدادهم ونهمهم قد صنع خطاً مستقيماً مع من سبقهم، فلم يصعب على الشعب القياس، فساد بفساد، واستبداد باستبداد، ونهم بنهم، فلتكن الثورة كائنة بكينونة أسبابها ودواعيها الأولى. تجلت الإرادة الثورية فى أبهى صورة لم يشهدها الجنس البشرى من قبل، انتفض المجتمع والدولة بمؤسساتها انتفاضة من يقاوم الموت فى ساحة الوغى، مؤسسات دولة تحمى إرادة شعب انتفض لحماية مؤسسات دولته. ولا تزال الثورة ممكنة طالما إرادة الفعل الثورى حية حرة فاعلة. سنجد الديدان والحشرات والطفيليات وخفافيش الظلام والدبابير بأذنابها اللاسعة، سنجد المقاومة وصراع الوجود والعدم، ومع ذلك لابد من حرث التربة وتفتيت أحجارها وتطهيرها بالتهوية والتشميس، وتسميدها وبذر بذور الحياة فيها حتى ينتقل الفعل الثورى من مرحلة الممكن إلى مرحلة الوجود. قد ندرك ذلك وقد لا ندركه، إلا أنه يلزم الوصول به إلى غايته حتى لا تلعننا الأجيال القادمة.
