فى العام 1787 دارت مناقشات واسعة بين مجموعة من صفوة المجتمع الأمريكى الحديث حول دستور الولايات المتحدة الأمريكية، هذه المناقشات تكشف لنا مدى جدية هؤلاء وبحثهم عن الصالح العام للشعب والوطن، فنجد ألكسندر هاملتون يطرح سؤالاً هاماً فى أولى أوراق هذه المناقاشات مفاده: "هل المجتمعات قادرة أو غير قادرة على خلق حكومة صالحة بواسطة إرادتها الحرة، أو أن هذه المجتمعات قدر لها، وإلى الأبد، الاعتماد على الأحداث واستعمال العنف عند وضع دستورها السياسى، فإذا كانت هناك أى حقيقة فى الإشارة المذكورة، فإن الأزمة التى نمر بها الآن تجبرنا على الوصول إلى قرار يحسم لنا الأمر مرة واحدة وإلى الأبد، وعلينا أن نضع بعين الاعتبار أن القرار الخاطئ، الذى قد نتخذه يمكن أن يكون حقاً من سوء طالع الجنس البشرى".
هكذا هو يحذر وينبه إلى أهمية وخطورة مواد الدستور ولكنه يقف أيضاً عند المصالح المتعارضة داخل المجتمع، فنجده يذكر فى ذات الورقة: "أن واحدة من أخطر العقبات التى يتوجب على الدستور الجديد، أن يواجهها لهى المصلحة الواضحة لفئة أو طبقة معينة من الناس فى كل ولاية من الولايات، فى أن تقاوم التغييرات التى قد تشكل خطر إنقاص سلطتهم، وخفض ما يترتب على المراكز والمناصب التى يحتلها أفراد هذه الفئة فى مؤسسات، وكذلك خطر الطموح المقموع عن فئة أو طبقة أخرى من الناس، كانت تأمل أحد أمرين: إما أن تعظم نفسها من خلال الفوضى فى بلدها، أو تميز نفسها بآفاق أكثر عدالة أو إنصافاً".
ولعله فى الفقرة التالية يجسد ما تعيشه مصر حالياً حيث يذكر هاملتون: "فلو حكمنا فى ذلك على أساس تصرفات الأحزاب المتعارضة، لقادنا هذا إلى استنتاج أنها جميعاً تسعى لإثبات عدالة الرأى الذى ترضاه.
وإلى زيادة عدد مؤيديها بتأثير جهودها بما تطالب به، وبمرارة الحنق الذى يبديه أفرادها أيضاً، حينذاك سيتم تصوير الحماسة المتنورة تجاه حكم كفء وفعال على أنه نتاج مزاجية تميل إلى السلطة الطاغية والمعادية لمبادئ الحرية العامة، كما يصور التخوف الغيور، والمبالغ فيه من الخطر على حقوق الشعب، وهو فى أغلب الأحيان يقع فيه عقل المرء أكثر من عاطفته على أنه مجرد تظاهر واصطناع، وأنه الطعم الذى يعلقه طالبو الشعبية فى السنارة على حساب الخير العام للأمة".
هنا هو يقودنا لأمر آخر يجرى اليوم فى مصر هو التوازن بين قوة الحكم والحريات الشخصية، فيذكر" أن قوة الحكم أمر أساسى لضمان الحرية ويتناسون، أنه عند التأمل الطويل والتدبر حول حكم صحيح وسليم وعلى إطلاع تام بأمور المحكومين، لا يمكن الفصل بين الأمرين: قوة الحكم، وضمان حريات المواطنين، عن أن الطموح الخطر غالباً ما يكمن خلف الحماسة الزائدة لحقوق الشعب، أكثر مما يتخفى تحت المظهر المنفر لحزم الحكم بفصل كفاءته".
لكننى توقفت بشدة حول صفات من وضعوا الدستور الأمريكى، فنجد جان جى يذكرها فى ورقة مؤرخة بـ31 أكتوبر 1783 كما يلى: "ولقد تشكل ذلك المؤتمر من رجال لديهم الثقة الكاملة فى الشعب، أثبت كثير منهم عظيم وطنيتهم وحبهم لبلادهم، وأظهروا قدراً كبيراً من الفضيلة والحكمة، فى أوقات عصيبة تمحص عقول الرجال ومشاعرهم.. آنذاك قاموا بذلك الإنجاز الشجاع، وبعقول غير منشغلة بمواضيع أخرى.. وصفوا ما رأوه دون أن ترهبهم السلطة، وغير متأثرين بأحاسيس أخرى غير محبتهم لوطنهم".
وينقلنا جان جى فى مناقشته فى ورقة مؤرخة فى 3 نوفمبر 1787، إلى السلامة الوطنية، فيذكر أنها: "سلامة تحترم ضمان بقاء السلام العام واستمراره، كما تحترم ضمان الاستقرار فيما بين أفراد الشعب، وتقف ضد خطر عدوان الغرباء عليه، سواء كان العدوان بقوة السلاح أو بتأثير النفوذ، كذلك تقف ضد الاعتداء بالسلاح فيما بين الأفراد أنفسهم، أى العدوان الداخلى ذاته".
أدرك واضعو الدستور الأمريكى أهمية لا مركزية الحكم، الذى ينتج عنه سياسيين منتشرين على امتداد رقعة الوطن لا سياسيين فى العاصمة فقط على غرار مصر، فخبرة الحكم تفرز ساسة تستطيع الدولة اختيار مسئولين طبقاً لإنجازاتهم وخبرتهم، فإذا اتسعت رقعة الاختيار سيكون هذا فى صالح الوطن، كما يقودنا جيمس ماديسون لمناقشات مفصلة فى أوراقه حول قدر السلطة التى يمنحها الدستور للحكومة، والبنية الخاصة بالحكومة وتوزيع سلطتها على الفروع والمجالات المتعددة فيها.
ويذكر الدكتور أحمد ظاهر عدة دروس مستفادة من هذه الأوراق هى :
الدرس الأول الذى يمكن تعلمه من هذه الأوراق هو كيفية التعلم من الأحداث التاريخية، فهذه الأوراق تذهب إلى أعمق من مجرد وصف الأحداث إلى تحليل الأسباب التى أدت إليها، فمثلاً ماذا يستطيع الشخص أن يتعلم من الدكتاتورى؟ ما الدروس الرئيسية التى يمكن أن نتعلمها من التجربة الرومانية؟ ما الأخطاء التى حصلت فى العصور الوسطى؟ فهذه الأوراق لا تصف الأحداث فقط، ولكنها تقترح الحلول من أجل عدم تكرار هذه الأخطاء، فهى تقترح دستوراً فيدرالياً لتخفيف الآلام والشرور لأى نظام سياسى.
الدرس الثانى: الذى نتعلمه من هذه الأوراق هو أن الثورة التى تهدف إلى بناء دولة عصرية وأمة عصرية وتتوقف عند إعلان استقلالها، ليست بثورة، فهذه الأوراق تخبرنا بكل وضوح بأن الثورة هى وسيلة وليست غاية بحد ذاتها، حيث يجب من خلالها تحقيق الحرية والعدالة والسعادة للجميع؛ فالثورة هى عملية مستمرة تغير قوانينها تبعاً لهذا العالم المتغير، وحيث إن الطبيعة محكومة بالقوانين المتغيرة، وعليه يجب أن تساير قوانين الأرض هذا التغيير، وقد قامت الثورة الأمريكية من أجل تحقيق العدالة والازدهار حسب قول كرين برنتون Crain Brinton فى كتابه "الثورات الكلاسيكية – The Classical Revolutions"، فهذه الثورة صارعت لإقامة نظام جديد لم يوجد مسبقاً.
كانت ضد سلطة القوى الخارجية، أو سلطة الحكم الفردى، فقد كانت من الجميع وللجميع.
الدرس الثالث: الذى يمكن أن نستقيه من هذه الأوراق هو الطريقة، التى يمكن للسياسيين وواضعى التشريع والمثقفين من خلالها خلق الوحدة من بين التنوع.
فالنظام السياسى الأمريكى الفضفاضى الذى برز بعد الثورة الأمريكية عام 1776 كاد أن يخلق صراعاً بين الثلاث عشرة ولاية حول المصالح الاقتصادية، فقد اقترح كُتاب "الأوراق الفيدرالية" حلاً لهذه القضية: وهو الدولة الفيدرالية، ولفتوا الانتباه إلى "أن أولئك الذين يدعون إلى الانفصال، إنما يعملون ضد مصالحهم".
الدرس الرابع: وهو درس مهم، فهو يفيد بأن لا شىء يمكن أن يؤخذ على أنه مسلم به، فلا شىء يجب أن يخضع للتجربة؛ فالواقعية هى طريقة حياة، والحالة تفرض طبيعة القانون وليس العكس صحيحاً، فقوانين العالم المتغير يجب أن تكون مستمرة التغيير، ويجب أن تتوافر تفسيرات جديدة دائماً.
هناك دروس كثيرة يستطيع المرء، أن يتعلمها من هذه الأوراق، وأود هنا أن أقترح على القارئ العربى، أن يتمعن فى هذه الأوراق، وأن يتعلم من الفلسفة السياسية التى تتضمنها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة