«الجهل حريق لا ينفع معه التقطير» لست واثقا إن كانت العبارة لعميد الأدب العربى طه حسين، لكن صفحات «ويكيبيديا» تنسبها له فى إصرار، ولماذا لا والرجل خاض أكبر معارك حياته ضد الجهل والظلمات، فى سبيل شعلة التنوير، ورحل فى 28 أكتوبر 1973، منذ أربعين عاما، ولم تتذكر الدولة إحياء ذكرى رحيله، ومعاركه من أجل التعليم وننشغل هذه الأيام بإسفاف سينمائى يقوده «أوكا» و«أورتيجا» والراقصة «صوفينار».
ومن المفارقة التاريخية أن معركة «طه حسين» فى طريق نهضة التعليم، بدأت مبكرا قبل ثورة يوليو 1952، حينما كان وزيرا للمعارف، وقتها تصدى الملك فاروق لتوليه الوزارة عام 1950، فى وزارة مصطفى النحاس، لكن الملك تراجع، وتولى حسين الوزارة، وسعى لتحقيق مشروعه بإقرار حق التعليم لجميع المواطنين، وليس لعلية القوم فحسب، وهو المشروع الذى تم تنفيذه فى عهد جمال عبدالناصر، بعد ثورة يوليو، على الرغم من الهجوم على صاحب المشروع، باعتباره من العهد البائد.
وأخفق التطبيق العشوائى لمجانية التعليم، فى عمل نهضة حقيقية لأبناء الوطن فى هذا المجال، رغم ترديد رؤساء عصر يوليو المتعاقبين، أن التعليم مشروع أمن قومى، وكيف يكون هذا المشروع على رأس أولويات الدولة، وخزانتها تصرف على تسليح شرطتها وجيشها، أرقاما مضاعفة عما تصرفه على تعليم أبنائها.
واستهلكت مصر طاقتها فى صفقات التسليح فى عهد السادات لخوض المعركة، وانتهى الالتفات إلى مشروع التعليم نهائيا، وبدأت أوار المواجهات الطائفية، إحدى ثمار التقطير فى مواجهة حريق الجهل، الذى استشرى فى المجتمع مثل السرطان، ومع علو قيم الاستهلاك فى نهاية السبعينيات، كان من الطبيعى أن يكون حال مصر بعد عقدين من الزمان، أن يحتذى شباب مصر بحلقة شعر «أوكا» و«أورتيجا» و«محمد رمضان» فى فيلمه «قلب الأسد»، وأن تجتهد بناتها فى الحصول على ليونة ومرونة «صوفيناز» التى ترقص وتهز بكل أعضائها.
اليوم بعد مرور 40 عاما على رحيل طه حسين، لم تزل مصر عاجزة عن رفع مخصصات التعليم فى موازنتها، وتحسين أجور المعلم، وبناء مدارس أكبر، لحل مشكلات الكثافة، أو حتى معالجة المدارس المتهالكة، التى تمثل فصولها فخاخا جاهزة لقتل أطفالنا داخلها، نتيجة لتصدع أسقفها وحوائطها، كما أن مصر عاجزة فعلا عن اللحاق بقطار التعلم التكنولوجى الحديث، الذى انطلق منذ سنوات فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، فلم تعد منظومات الحفظ والتلقين هى الأساس الذى تنهض عليه وسائل التعليم الحديثة، كذلك لم يعد الاعتماد على المناهج الجاهزة التى يضعها خبراء التعليم الجهابذة الذين تستعين بهم الوزارة كل عام، هو الوسيلة الأكيدة فى تطوير مناهج التعليم، لجعلها مواكبة ومعاصرة، نحن بحاجة حقيقية لنسف منظومة تعليمية عتيقة وبالية، والتخلى عن واضعى المناهج الأفاضل المحترمين، الذين يتقاضون مبالغ كبيرة كل عام، مقابل الحفاظ على نفس الأفكار البالية الجامدة، كما أننا بحاجة لشجاعة نادرة وجرأة فى إصدار قرارات غير تقليدية، تصل إلى جذور العملية التعليمية، وتغير منها، وتنقلنا نقلة غير مسبوقة، إلى مصاف الدول التى حجزت أماكنها فى قطار التعليم الحديث، بالإضافة للاستثمار فى التعليم، ورفع رقم ميزانيته فى الموازنة، كل هذه الأمور السابقة، ربما تكون بداية لأفكار تجعل مجتمعنا حديثا قادرا على مجابهة تحديات الاستبداد الفكرى، والعنف الطائفى، والمجتمعى، والاعتماد على أجيال حقيقية، تخرجت فى مدارس «أميرى» وليسوا أجيالا مصنوعة فى المدارس «الدولية» تدين بثقافتها لتعليم «غربى أنجلو أمريكى».
«طه حسين».. الجهل حريق لا ينفع معه التقطير.. الدولة قادرة أن تجعل مفكريها أشهر من «أوكا» و«أورتيجا» و«صوفينار».. واليوم ذكرى رحيل عميد الأدب العربى.. فذكر إن نفعت الذكرى
الإثنين، 28 أكتوبر 2013 02:46 م