محمد جاد الله

الهوية وقداسة التراب الوطنى

الأحد، 27 أكتوبر 2013 12:13 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الحق يختلف فى مفهومه عن الحقيقة، فالحق مطلق أبدى ثابت، عتيق فى القِدم، بينما الحقيقة حمالة أوجه..تختلف بتنوع الخلفيات والمشارب الثقافية وزوايا الرؤية المختلفة بين الراصدين لها.

فالحق أن حدود الدولة المصرية هى أقدم حدود سياسية معروفة، لأقدم دولة موحدة فى التاريخ الإنسانى، ولا تمثل مجرد حدود حديثة، كحدود دول الجوار فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التى رسمتها أيدى أباطرة الاحتلال الأوروبى بعد انتصارهم على الدولة العثمانية، وإمعانهم فى تقطيع أواصرها.

والحق أن حدود مصر ظلت مهددة من الجهات الآربع عبر آلاف السنين، ولم ينته التهديد أبداً حتى الآن، فمصر حالياً ما زالت محاطة من الشرق والغرب والجنوب بدول يغلب عليها أمنياً طابع "الميليشيات المسلحة"، ولا أستثنى فى هذا السياق جيش الاحتلال الإسرائيلى النظامى الذى تتشابه عقيدته العسكرية لحد كبير مع المبادئ الحاكمة للميليشيات.
والحق أن الجزء الأكبر من ثمن تحرير سيناء قد تم تسويته على أقساط مدفوعة من دماء المصريين بأجل غير مسمى لم ينته حتى الآن.

كما أن الدبلوماسية المصرية لم تكن لتكافح دولياً لاستعادة كيلومتر مربع واحد (مدينة طابا)، والتى لا تمثل بالنسبة الجغرافية إلا ما يقرب من واحد على مليون ومائة ألف من مساحة الوطن، إلا لإدراك الدولة لمفهوم قداسة التراب الوطنى.

وإمعاناً فى الإجحاف بتلك الحقوق التاريخية، انتشرت على شبكات التواصل المجتمعية مقولة "الحدود_تراب"، كمفردة جديدة من مفردات النشاز فى حرب الاستنزاف الإليكترونية ضد فكرة القومية المصرية، ويعنى بها مروجوها أن الروابط التى تجمع المسلمين فى مصر مع عالمهم الإسلامى وأشقائهم المسلمين فى العالم تسمو كأولوية على ما يجمع طوائف وفئات الشعب المصرى، وتتعدى فى أهميته قداسة التراب الوطنى للدولة.

وفى واقع الأمر لا تمثل تلك المقولة المغرضة، إلا وجه من حقيقة يراد بها باطل، والباطل فيها يكمن فى استمراء فصيل سياسى لتمييع الثوابت التاريخية والوطنية للهوية للمصرية من أجل نصرة هوية مجتزئة من سياقها يدعونها احتكاراً "بالإسلامية".

هذا ما جناه الوعى المصرى عبر عقود من محاولة إتقان السباحة فى بحور "الضلالات التاريخية".

فماذا ننتظر من نتاج إنسانى، لمناهج تاريخ جافة، صنعتها عقول مُستبدة، لا تهتم إلا بإبراز وتلقين أسماء الحكام، وعدد سنوات حكمهم ومنجزاتهم، ولا تُعلِّم المدنيين عن فلسفة الهوية الوطنية إلا هباء غير علمى ينساه الدارس فور خروجه من قاعة الامتحان، ويعيش بعدها فاقداً لتاريخ سبعة آلاف عام من ذاكرته الوطنية؟

ولماذا نستغرب أن يتبادل المدنيون فيما بينهم الاتهامات بالخيانة أو العمالة أوالانتماء للطابور الخامس عند الدعوة إلى إحلال السلام بين التيارات المتصارعة على الحكم، وقد تربى وعيهم من خلال الأفلام والمسلسلات "الوطنية" على ربط مصطلح "الدعوة إلى السلام" بصورة ذهنية سلبية، سبَّبَها الترويج الساذج لفكرة أن أجهزة مخابرات الأعداء غالباً ما تتستر خلف واجهة تدعوها "منظمة للسلام"، بهدف تسهيل تجنيد العملاء والجواسيس؟

وماذا ننتظر من حكومة عجوز مختلة الأولويات والاستراتيجيات، وهى تسعى أولاً لسن قانون يعاقب من لا يقف احتراماً للسلام الوطنى، قبل أن تسعى لتنقية وإعادة صياغة المناهج التعليمية التى تشكل الوعى المدنى الصحى فيما يخص الهوية الوطنية عبر المراحل التعليمية؟

الحق أن احترام رموز الهوية الوطنية الذى يفرض بالقانون هو احترام زائف، فالهوية كالإيمان.. ولا يمكن لدولة أن تجبر رعاياها على الإيمان بقيم ومفاهيم الهوية الوطنية بالاقتصار على استخدام الوسائل الأمنية والقانونية السائدة.

والعمل من أجل ترسيم ملامح الهوية الوطنية فى وعى المدنيين، لا يعد ترفاً فى ظل ما نشهده من تآكل الانتماء الوطنى بين الشباب.

ممارسة التمثيل المستمر لدور من فاجأهم اجتزاء فصيل سياسى كالإخوان المسلمين ومؤيديهم لهوية الدولة الوطنية فى إطار صراعهم السياسى الحالى، يمثل تتويجاً للفشل الشعبى والحكومى فى التعاطى مع أزمة مجتمعية مكتومة أصابت تراكماتها السلم المجتمعى فى مقتل منذ ستة عقود، ولا تزال الأزمة تغلى فوق السطح وتحته، ولم تفلح يوماً فى معالجتها جذرياً أية حلول أمنية.

وعلى الرئاسة أن تنتبه إلى أن ما تم ترويجه من جهتها عن الشروع فى "تأسيس وطن جديد" قائم على الحقيقة والعدالة بعد الثلاثين من يونيو، قد يتحول تدريجياً فى التوصيف التاريخى بسبب المعوقات البيروقراطية وسوء الإرادة، إلى مجرد فكرة حالمة سرمدية، نتمنى لها ألا تلحق فى مقبرة التاريخ بسابقتها المدعوة فى الأدبيات الإخوانية "بأستاذية العالم".

ففى مقبرة التاريخ.. سوف ترقد كل الرؤى الكبيرة، التى عجز من نادوا بها عن تحقيقها.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة