كانت مصر دائمًا كيانًا بالغ الخصوصية، فقد فرضت الجغرافيا أحكامها على مصر بطريقة مرهقة والجغرافيا تفرض أحكامها على كل البلدان، وكان موقع مصر الجغرافى الحاكم سببًا فى تعرضها لغزو القوى العالمية عبر التاريخ، وضاعف افتتاح قناة السويس سنة 1869، من أهمية موقع مصر الجغرافى وخطورته،
مما عرضها لآخر وأصعب احتلال فى تاريخها كله، وهو الاحتلال البريطانى لمصر 1882 - 1956، وقد بدأ الاحتلال ومصر تحكمها أسرة محمد على "الخديوى توفيق" تحت السلطة الاسمية للدولة العثمانية التى أسقطها الإنجليز فور دخول العثمانيين الحرب فى صف ألمانيا سنة 1914، فأعلنت بريطانيا الحماية على مصر وفصلتها عن سلطة إسطنبول الاسمية، وبعد انتهاء الحرب عام 1918 توجه سعد زغلول وزملاؤه للمطالبة باستقلال مصر، وأدى الرفض البريطانى إلى ثورة 1919، وقد كان قيام ثورة 1919 فى مصر حاسمًا فى إظهار أن العالم العربى استقر على الخيار الأخير، وهو خيار التجزئة والاستقلال الوطنى، وكانت مصر بحكم ظروف تاريخية عديدة قد تحملت مسئولية صد التتار وإخراج الصليبيين من المنطقة وحماية الإسلام بقلعة الأزهر العتيد، وبحكم ظروف مستجدة تأثرت بتيارات الفكر الأوروبى فى القرن التاسع عشر، ونمو طبقة متوسطة وطنية تعتمد على ملكية الأرض الزراعية، وكان متعلموها ومثقفوها وشعراؤها وفنانوها من أبناء الطبقة المتوسطة هم الذين قادوا ثورة 1919، وأصبح الاستقلال التام مطلبًا شعبيًا واضطرت الثورة الإنجليز إلى إصدار تصريح 28 فبراير سنة 1922 الذى اعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وإن احتفظت بريطانيا بأربع نقاط جعلت هذا الاستقلال شكليًا، تمثلت فى حق الدفاع عن مصر وحماية مواصلاتها الإمبراطورية وحماية الأقليات وموضوع السودان، مما أدى لبقاء القوات البريطانية فى مصر وتحكم القرار البريطانى فى السياسة المصرية إلى درجة الإذلال، وقد حاولت السياسة المصرية عن طريق المفاوضات الحصول على حقوق أوسع للاستقلال الوطنى عبر السنوات التالية دون جدوى، حتى تغيرت موازين القوى فى أوروبا بوصول هتلر وحزبه النازى إلى الحكم فى ألمانيا وإعادة تسليح وتقوية الجيش الألمانى، الذى بدأ سنة 1933 وسارت ألمانيا فى طريق استعادة قوتها العسكرية وبدت إرهاصات الحرب العالمية الثانية فى الظهور، فاضطرت بريطانيا لتطوير علاقتها بمصر والاستجابة لبعض حقوقها، وتم عقد وتوقيع معاهدة صداقة وتحالف بين مصر وبريطانيا، عرفت بمعاهدة سنة 1936 نسبة إلى العام الذى عقدت فيه، والتى أدت إلى تمركز القوات البريطانية فى قاعدة قناة السويس وخروجها من القاهرة والإسكندرية وسائر المدن المصرية، وتقوية الجيش المصرى ليعاون الجيوش البريطانية فى الدفاع عن مصر أثناء الحرب المرتقبة، وهو ما حدث فعلا خلال الحرب العالمية الثانية 1939 - 1945 تنفيذًا لمعاهدة التحالف، وبعد انتهاء الحرب سنة 1945 والتى دخلتها مصر رسميًا فى نهاياتها (مايو 1945) ودفع أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء حياته ثمنًا لإعلانه الحرب، وحاول خليفته محمود فهمى النقراشى التفاوض مع الإنجليز لتحقيق الجلاء، وفشلت المفاوضات لتمسك مصر بالسودان ووحدة وادى النيل، الذى كان يلقى معارضة من جزء كبير من السودانيين أنفسهم بتحريض من الإنجليز فحمل النقراشى القضية المصرية إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن سنة 1947، ولكن النفوذ البريطانى فى المنظمة الدولية جعله يعود بخفى حنين، وبعد اغتيال الإخوان المسلمين للنقراشى سنة 1948، وانتهاء حرب فلسطين بقيام دولة إسرائيل حاول رئيس الوزراء الجديد إسماعيل صدقى باشا تجديد المفاوضات وعقد مع مستر بيفن وزير خارجية بريطانيا معاهدة للجلاء والدفاع المشترك سميت بمعاهدة صدقي- بيفن بموافقة وتأييد القصر الملكى، ولكن الشعب المصرى الذى أثبت دائمًا أنه أقوى من حكوماته رفض المعاهدة وأسقطها، رغم كل العنف الطاغى الذى استخدمته الحكومة ضد المظاهرات الشعبية.
ووجد الملك فاروق نفسه مضطرًا إلى إعادة حزب الوفد ذى الشعبية الكبيرة إلى الحكم، رغم كل خلافاته التاريخية معه سنة 1950، ووجد النحاس باشا نفسه أمام معضلة شخصية فهو الذى وقع معاهدة سنة 1936 مع الإنجليز، وقد أصبحت شروطها فى التحالف غير المتوازن مهينة فى عالم ما بعد الحرب وتجاوزها الزمن وكان العناد الإنجليزى فى التمسك بها أو تحويلها لحلف دفاعى أوسع عن الشرق الأوسط يضم دولاً أخرى فى المنطقة مستفزًا، مما اضطر النحاس إلى التهديد بإلغائها من جانب واحد فلما لم يهتم الإنجليز بتهديده ألغاها بالفعل يوم 8 أكتوبر سنة 1951 قائلاً: من أجل مصر وقعتها ومن أجل مصر ألغيتها"، وانطلق الفدائيون فى كفاح مسلح ضد القاعدة العسكرية فى قناة السويس وقدموا أرواحهم فداء للوطن، رغم الوحشية البريطانية فى التعامل مع من يسقط منهم فى أيديهم وتدميرهم لأحياء كاملة فى السويس والإسماعيلية انتهت بمذبحة الشرطة فى محافظة الإسماعيلية فى 25 يناير 1952، وأكمل الملك وحلفاؤه من الإخوان المسلمين المؤامرة بحرق القاهرة فى اليوم التالى حيث أقام الملك وليمة لضباط الجيش من رتبة صاغ فأعلى فى قصر عابدين لتقديم ولى عهده الطفل إلى ضباط الجيش، وقام الإخوان بتوجيه المظاهرات العارمة التى خرجت احتجاجًا على الجريمة الإنجليزية فى الإسماعيلية إلى حرق دور اللهو والكازينوهات ودور السينما ومحلات الأجانب، ثم شمل الحريق معظم أنحاء المدينة ولم ينزل الجيش إلا قبل الغروب، بعد أن احترقت القاهرة وتمت إقالة وزارة النحاس المناوئة للإنجليز، وشهدت مصر خلال الأشهر الستة التالية ست وزارات أوقفت العمل الفدائى وقبضت على الفدائيين، وطاردت قياداتهم حتى فاجأ الضباط الأحرار العالم بثورة يوليو سنة 1952، وبعد استقرار الوضع الداخلى إلى حد ما بدأت مطالب الثوار للإنجليز بعقد مفاوضات لحل مشكلة الجلاء، ولكن الإنجليز واجهوا هذه المطالب بالتجاهل أحيانًا وبتشكيل وفد مفاوضات من العسكريين الإنجليز رفضه الثوار حتى لا تتحول المفاوضات إلى تحالف عسكرى مرة أخرى، وفى تلك الفترة انكب الزعيم جمال عبد الناصر على قراءة محاضر المفاوضات المصرية البريطانية منذ سنة 1920 وحتى سنة 1951 وخرج منها بحقيقة تقول أن موضوع السودان كان دائمًا الصخرة التى تحطمت عليها كل المفاوضات السابقة والتى كانت تضعف موقف مصر التى تطالب بالاستقلال التام وتريد أن تضم السودان، لذلك بدأ جمال عبد الناصر بالسودان قبل مصر وسافر صلاح سالم عضو مجلس الثورة إلى السودان حتى أقصى جنوبه ورقص مع قبائل الدنكا وكون رأيًا عامًا سودانيًا منحازًا للرؤية المصرية التى تلخصت فى التخلص من الاحتلال الإنجليزى للقطرين أولاً ثم يقرر السودان مصيره كيف شاء، وتم عقد معاهدة السودان، التى كرهها تشرشل إلى حد الموت وعاقب الحاكم العام للسودان ولام وزارة الخارجية ووزيرها " أنتونى إيدن" لومًا شديدًا على سقوطهم الدبلوماسى فى فخ نصبه لهم المصريون، على حد تعبيره.
وبدأ عبد الناصر يكثف إلحاحه على الإنجليز للتفاوض على الجلاء عن مصر، ولكن الإنجليز كانوا فى حالة معنوية سيئة بعد معاهدة السودان، ولم يكونوا على استعداد لمفاوضات أخرى، وهنا بدأ عبد الناصر يستخدم النضال المسلح بطريقة مبتكرة بعيدة عن التدمير وسفك الدماء ولكنها تسبب ارتباكًا كاملاً وفوضى عارمة للقوات البريطانية بقاعدة قناة السويس، تمثلت فى تخدير الضباط البريطانيين بعد خطفهم وترحيلهم خارج مصر ليظهروا فى دولة أوربية وفى لندن نفسها وهم لا يعلمون ما الذى حدث لهم بعد أن يكون السفير البريطانى قد هدد وتوعد ورفعت القوات درجة الاستعداد ثم تجد نفسها فى موقف بالغ الحرج حين يظهر ضباطها المختطفون خارج مصر مما عرضهم لسخرية العالم، وكان عبد الناصر يشرف بنفسه على هذه العمليات التى كلف بها اليوزباشى " كمال رفعت " من الضباط الأحرار؛ وأخيرًا جاء الإنجليز إلى مائدة المفاوضات بوفد برئاسة السير رالف ستيفنسون "سفير بريطانيا بالقاهرة، ولم يجد الإنجليز حجة يدحضون بها الحق المصرى واضطروا إلى توقيع معاهدة الجلاء فى 19 أكتوبر سنة 1954 والتى تم بمقتضاها جلاء آخر جندى بريطانى عن قاعدة قناة السويس فى 18 يونيو 1956 وحين حاولوا العودة بعد تأميم قناة السويس من خلال العدوان الثلاثى 29 أكتوبر 1956 وتمت هزيمتهم ولكن تلك قصة أخرى.
إن تاريخ الكفاح المصرى ضد الاستعمار البريطانى الذى جثم على صدر الوطن أربعة وسبعين عامًا، تاريخ ملئ بالتضحيات والبطولات والشهداء والدماء، وكان الشعب المصرى كعادته عبر التاريخ أقوى وأكبر وأعظم من المستعمرين وحكومات العملاء التى حكمت تحت النفوذ البريطانى والقصر الملكى الذى كان منحازًا خاضعًا للإنجليز طوال عصر الملك فؤاد ومعظم عصر فاروق الذى أسلم نفسه للنفوذ الإنجليزى بعد حادث 4 فبراير سنة 1942، ولعلنا نستطيع أن نتعلم من دروس التاريخ أن هناك فارقًا واسعًا بين الثورة والفوضى، فما يحدث فى مصر اليوم هو محاولة تحويل ثورة عظيمة إلى فوضى عارمة، فالثورات كما رأينا تقوم لبناء الدول لا لهدمها ومصر كيان صنعته جغرافيًا عبقرية جعلته مطمعًا لكل قوة عظمى تظهر فى العالم ولكنها أيضًا تملك شعباً يحمل جينات عالية التميز صنعها تاريخ عريق فى عمر الزمن وهذه الخصوصية لمصر موقعاً وشعباً هى الأمل فى اجتياز هذه المرحلة كما اجتزنا من قبل وبنجاح باهر مراحل أقسى وأصعب.
الزعيم جمال عبد الناصر
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشريف
بل هو نضال الفشل والاكاذيب وهدم حضارة كل مصر الحبيبة
***************************************
عدد الردود 0
بواسطة:
MagdyNegm
الدقة التاريخية وإبهار الإيجاز
عدد الردود 0
بواسطة:
ميدو
جميل