وضعت الولايات المتحدة الأمريكية، خطوط سياستها الرئيسة كقوة عالمية عظمى، ابتداء من الأشهر الأخيرة للحرب العالمية الثانية، فى بدايات عام 1945، حين تأكد انتصار الحلفاء على دول المحور، وكان التصور الأمريكى للصعود العالمى، كقوة عظمى يتمثل فى محورين:
المحور الأول: ويتم التعامل فيه مع الحلفاء الطبيعيين للولايات المتحدة، خاصة إنجلترا وفرنسا وإمبراطوريتهما الاستعماريتان اللتان كانتا تشملان معظم الدول الآسيوية، والأفريقية بمنطق الإزاحة والحلول، بمعنى إجلائهم عن مستعمراتهم القديمة، والحلول بالنفوذ الأمريكى المعتمد على المساعدات الاقتصادية، والنفوذ الأدبى المتحرر من أخطاء الحقبة الاستعمارية الأوروبية المعادية لشعوب المستعمرات، وذات السمعة السيئة فى التعامل معهم.
وكانت منطقة الشرق الأوسط وفى القلب منها مصر والمملكة السعودية، من أهم المناطق التى بدأ الأمريكيون ممارسة منطق الإزاحة والحلول فيها، ففى شهر فبراير سنة 1945 وصل الطراد الأمريكى كوينسى، إلى منطقة قناة السويس، وأرسى فى البحيرات المرة وسط القناة حاملاً الرئيس الأمريكى، " فرانكلين روزفلت"، الذى هرع للقائه بناء على طلبه كل من الملك فاروق الأول ملك مصر، والملك عبد العزيز آل سعود ملك السعودية، وفى حلق كل منهما مرارة، وغضب من السياسة البريطانية، ومحاولاتها إكراه البلدين بسياسة استعمارية قاسية، تستخدم منطق التهديد والسيطرة والتلويح باستخدام القوة، وخرج كل من الملكين من مقابلة الرئيس، وقد فهما أنه يمكن لهما الاعتماد على دعم الولايات المتحدة فى التخلص من الاحتلال البريطانى، الذى جثم على قلب مصر منذ سنة 1882، والنفوذ البريطانى فى الخليج العربى، وخليج عدن المهدد للسعودية واستخدمت الولايات المتحدة نفس السياسة، مع فرنسا فى سوريا ولبنان وتونس والمغرب وفى دول أخرى فى آسيا كالهند وجنوب شرق آسيا، وإيران فى أزمة تأميم البترول الإيرانى، سنة 1951 حيث تم إقصاء الشركات البريطانية وحلول الشركات الأمريكية محلها.
المحور الثانى: ويتم التعامل فيه مع حليف الأمس عدو اليوم الاتحاد السوفيتى، وذلك بإحاطته مع الدول السائرة فى فلكه بمجموعة من القواعد العسكرية، والأحلاف الدولية التى تشكل فيها الدول الصغيرة المحيطة بالمعسكر السوفيتى، مقراً لقواعد الحلف الذى تشارك فيه أمريكا وحلفاؤها الغربيون، وتقوم بتسليح جيوش هذه الدول فى الحدود المطلوبة، وإقامة القواعد العسكرية " الأمريكية غالباً " فيها فنشأ حلف شمال الأطلنطى " الناتو"، وحلف جنوب شرق آسيا وكانت ثورة 1952، قد قامت فى مصر ووضعت جلاء الاستعمار البريطانى فى صدر أولوياتها مستغلة محور الإزاحة، والحلول التى تبنتها الولايات المتحدة، بحيث تسمح بدعمهم فى الإزاحة والاعتذار بلباقة، عند فتح باب الحلول الذى رأه عبد الناصر استبدال احتلال بريطانى، باحتلال أمريكى، وكانت المنطقة تحتوى قاعدة قناة السويس العسكرية، التى تعد أكبر قاعدة عسكرية فى العالم تسيطر عليها بريطانيا، وتتحرق أمريكا شوقاً إلى الحلول محل الإنجليز فيها، وتحدد هدف السياسة الأمريكية بالنسبة لمصر فى محورين هما:-
1- ضم مصر لتحالف غربى عن الشرق الأوسط، تكون مصر وقاعدتها فى قناة السويس مركزه وضم الدول الرئيسية فى المنطقة مثل إيران وتركيا والعراق، والأردن إليه.
2- اتخاذ سياسات للمساعدات الاقتصادية والعسكرية لمصر تؤدى إلى معاهدة صلح بين مصر وإسرائيل، تتبعها فيه بقية الدول العربية لتكتمل السيطرة الأمريكية على منطقة خالية من النزاعات داخلها، وتكتمل دائرة حصار الاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية.
ولما وجهت بالإصرار المصرى على عدم فتح أية مفاوضات فى موضوع الدفاع
المشترك، قبل جلاء آخر جندى بريطانى عن قاعدة قناة السويس أوعزت إلى بريطانيا ببدء تكوين الحلف، بعيداً عن مصر على أن تكون العراق دولته المركزية، ثم يتم ضم مصر إليه بعد الجلاء، وفعلاً قام حلف بغداد بعضوية العراق وإيران وتركيا وباكستان، وهوما اعتبرته مصر خروجاً على ميثاق الدفاع العربى المشترك، وتهيئة للصلح مع إسرائيل وحاربته بعنف وأيدتها المملكة السعودية فى معارضته، ورفض الشعب الأردنى قرار حكومته بالانضمام إليه فرفضت الولايات المتحدة تسليح الجيش المصرى، عقابا لمصر على هذا الموقف فكان قرار عبد الناصر سنة 1955 باستيراد السلاح من الكتلة الشرقية ضربة قاصمة للسياسة الأمريكية، ومات حلف بغداد بالسكتة المفاجئة بعد اعتداء بريطانيا وفرنسا على مصر فى 29 أكتوبر سنة 1956، حين لم يستطع أعضاؤه من الدول العربية والإسلامية تبرير موقفهم أمام شعوبهم، التى ثارت على تحالفهم مع المعتدين على بلد عربى إسلامى كبير وتحولت السياسة الأمريكية إلى عداء سافر مع مصر، ووضعت عشرات الخطط للتخلص من الحكم الوطنى القومى، بزعامة جمال عبد الناصر بلغت ذروة نجاحها من خلال حرب 1967 التى أثبتت تفوق السلاح الأمريكى تفوقاً كاسحاً على السلاح السوفيتى، وأحس الأمريكيون، أن حليفتهم الرئيسية فى المنطقة إسرائيل وسلاحهم المتفوق كَمْاً ونوعاً قد حقق لهم سيطرة شبه كاملة، على مقادير تلك المنطقة الشديدة الأهمية موقعاً وثروة.
ولكن الصمود المصرى الأسطورى خلال حرب الاستنزاف [67 / 1970] ثم مفاجأة حرب أكتوبر، التى انتصر فيها المصريون بسلاحهم السوفيتى انتصاراً ساحقاً، على الإسرائيليين بسلاحهم الأمريكى، رغم جسر الإمداد بأحدث الأسلحة المتطورة لإسرائيل فى أيام الحرب أذهل العالم، وأذهل مراكز البحوث العسكرية والسياسية فى الولايات المتحدة
خاصة، وقد سمح الرئيس السادات من خلال وبعد مفاوضات الفصل بين القوات للجنة الأمن القومى والدفاع بالكونجرس الأمريكى بالحضور إلى مصر فى أواخر يناير 1974 وبأن تحاور القادة العسكريين، لكى تعلم كيف صنع المصريون معجزة التفوق على السلاح الأمريكى المتطور، بأسلحة تقل عنه كثيراً فى الكفاءة، وسجلت اللجنة الكثير من الأسباب مثل رخص أسعار السلاح السوفيتى التى كفلت للمصريين استخدامه بكثافة عالية، وكثافة حائط الصواريخ المضاد للطائرات وتقارب قواعده ولكنهم اضطروا، إلى الاعتراف الواضح فى أكثر من فقرة من تقريرهم عن حرب أكتوبر 1973 بالكفاءة الممتازة للجندى المصرى، والفكر العسكرى المبدع للقادة والضباط والإنجاز الأسطورى للشعب والإنسان المصرى، الذى بنى قواعد الصواريخ تحت القصف الإسرائيلى سنة 1970 والعمال والفلاحون الذين دعموا اقتصاد الحرب، ووقفوا خلف قواتهم المسلحة يدعمونها بالجهد والعرق والفكر والفن والابتكار والإبداع، حتى حققوا نصرا فاجأ العالم وأذهله.
واليوم يعيد الرئيس أوباما أخطاء السياسة الأمريكية فى الخمسينيات مرة أخرى، فقد كان انحياز الجيش المصرى لثورة الشعب فى 30 يونيو، 3 يوليو2013 مدمراً للمشروع الأمريكى لتفتيت المنطقة، كما كان موقفها فى الخمسينيات مدمراً لسياسة الأحلاف العسكرية الأمريكية وبدلاً من أن تتفهم السياسة الأمريكية دروس التاريخ وتعرف، أنها تواجه شعباً عريقاً صنع الحضارة وعلم البشرية تعيد بنفس الغباء القديم سياسة العقاب، التى استخدمتها حين رفضت تمويل السد العالى، وحين دبرت ودعمت عدوان 1967، ولم تجن من هذه السياسة إلا سقوط المكانة وانهيار النفوذ وكراهية الشعوب وفى هذه المرة لن تغفر مصر لأمريكا موقفها الغبى، وستكون خساراتها لنفوذها فى المنطقة فصل النهاية لسياسة لا تأخذ العبرة من دروس التاريخ.
هيام محيى الدين تكتب: الغباء الأمريكى ودروس التاريخ
الأحد، 20 أكتوبر 2013 02:31 ص