صار من الطبيعى والمتوقع أن يستغل بعض أشباه البشر مناسباتنا الدينية والاجتماعية المبهجة فى استعراض حيوانيتهم، ولذا صارت أخبار التحرش هى المانشيت الرئيسى لصحفنا فى أول أيام العيد منذ عدة سنوات، خاصة مع تنامى ظاهرة التحرش الجماعى التى انتشرت كالوباء، وهكذا تحول العيد من مناسبة مبهجة إلى فرصة سعيدة لأنصاف البشر، وآكلى لحوم العفة ليشيعوا الفوضى الأخلاقية فى شوارعنا ومياديننا، مشوهين بذلك أعيادنا وصورتنا ووطننا بحثاً عن شهوة عارمة للانتهاك لا غير.
وفى كل عام تتعالى الأصوات وينادى المنادون ويصرخ الصارخون: «أنقذونا من التحرش» محملين وزارة الداخلية مسؤولية حفظ الأمن وضبط المتحرشين، وإننى وإن كنت أرى أن وزارة الداخلية تتحمل جزءا كبيرا من المشكلة بتقاعسها، ورخاوة قبضتها، لكننى أجد أنه من الظلم أن تتحمل هذه الوزارة وحدها هذه المسؤولية، لأن القضية من وجهة نظرى فى الأساس قضية «ثقافة»، ولا أقصد هنا بكلمة «ثقافة» مقدار ثقافة الفرد دنوا أو سموا، فللأسف تنتشر هذه الظاهرة فى قطاعات عريضة حتى فيما بين القطاعات الأعلى «ثقافة»، لكنى أقصد بها هذا المكون الثقافى الوجدانى المشترك فى الكثير من أفراد الشعب المصرى والعربى على حد سواء، فمشكلة التحرش من وجهة نظرى لا تعبر عن سعار جنسى محموم فحسب، وإنما تعبر أيضاً عن أزمة تربية عميقة، تشترك فى تدعيمها ثقافتنا الشرقية، وطبيعتنا الاجتماعية، فما التحرش إلا محاولة اختلاس لذة من كائن «أضعف» نسبياً، والأساس فى تلك الظاهرة هو استسهلال النهب على التعب من أجل الامتلاك، وهذه هى المصيبة الكبرى.
والظاهر أن تلك المشكلة ليست قريبة أو مستحدثة، والدليل على هذا هو أن ابن خلدون فى مقدمته يصف تلك المصيبة وصفاً رائعاً، إذ يقول فى مجمل تشريحه للشخصية العربية: إن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط (أى الأمور البسيطة) وذلك أنهم بطبيعة التوحش الذى فيهم أهل انتهاب وعيث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة، ولا ركوب خطر ويفرون إلى منتجعهم بالقفر، ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة، إلا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم، وأما البسائط متى اقتدروا عليها بفقدان الحامية (أى الحماية) وضعف الدولة، فهى نهب لهم وطعمة لأكلهم» انتهى كلام ابن خلدون وفيه من وجهة نظرى أس المشكلة وحلها فى آن واحد، فالمتحرش هو من ينطبق عليه هذا الوصف تماما، فهو الذى يستسهل انتهاب اللذة عن التعب من أجلها، فهو يرى فى «البنت» فى الشارع مطمعاً مجانياً يفرغ فيه شهواته دون اعتبار لقيم العدل والحق والحرية، ناهيك عن أن فى هذا السلوك المشين شعورا مضمرا بالازدراء من جانب المتحرش للمتحرش بها، وهو بهذا الأزدراء أولى بالطبع.
الحل إذن يكمن فى محاربة هذا المكون الثقافى القمىء الذى جعل المتحرش يفعل فعلته دون وازع، فلو ربينا أولادنا على قيم الحق والحرية لما وجدنا أحدا يستسهل انتهاب حقوق أحد، أو الاعتداء على حرية أحد، لكننا للأسف نربيهم على «اللى تغلب به ألعب به» و«اللى يجيلك منه أحسن منه» و«إن بيت أبوك وقع خد منه قالب» و«المال السايب يعلم السرقة»، ستسألنى: وما الذى جعل هذه الظاهرة تنتشر فى أيامنا هذه بالتحديد؟ سأقول: إن ضعف يد الدولة وفقدانها لمشروع ثقافى يعيد إليها رونقها، هو ما جعل هذه الظاهرة تنتشر بهذا الشكل، وإن لم نسع جاهدين من أجل عمل مشروع ثقافى حقيقى فانتظروا ما هو أسوأ.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
رمضان روميو
الدولة هي السبب !!!
عدد الردود 0
بواسطة:
على الوزير ... مقدم برانمج بالمرصاد
لدينا كاتب ومفكر : عادل شعيب ..