أنهينا الجزء الأول عند مرحلة «التخوين».. التخوين الذى بدأ الإعلام الجديد فى الترويج له ناحية كل شخص يقوم بزيارة الضفة الغربية أو المسجد الأقصى بحجة أنه تحت الاحتلال، وأن زيارة المسجد الأقصى تستلزم موافقة إسرائيلية، وهذه الموافقة تعتبر اعترافًا بالكيان الصهيونى.. وعليه.. وجب على كل مسلم وكل عربى ترك وهجر المسجد الأقصى وتسليمه تسليما كاملا لليهود يفعلون به كيفما يشاؤون وإلا سيُتهمون بالتطبيع. كنتُ شاعرا مغمورا منذ سنين قليلة جدا.. وكنتُ أتساءل كيف يفكر هؤلاء الناس؟ وكيف يتركون المسجد الأقصى بدون إعمار ولا حتى زيارة؟ وكيف يتركون أهلنا فى فلسطين يقاومون الاحتلال الصهيونى فرادى بدون أى مؤازرة ولا مساندة؟
وكانت الإجابات كلها غير منطقية ولكنى قبلتُها نظرا لثقتى فى الرموز الإعلامية التى تقول إن زيارة رام الله وزيارة الضفة الغربية بفلسطين وزيارة المسجد الأقصى هى بمثابة خيانة للقضية.. لم أفهم ما هى محاور الخيانة بالضبط ولكنى اعتمدتُ على فهم الآخرين الكبار والمشهورين وسرتُ على درب رموز الثقافة المشهورين الذين اعتمدوا هذه الفكرة وروّجوا لها، وبدأتُ فى تصديق نفسى واعتبار أهل الضفة الغربية بفلسطين خونة وزيارتهم نوعاً من أنواع التطبيع مع إسرائيل.
ثم فجأة قامت الثورات فى العالم العربى وتمرد الشارع العربى على حكامه وعلى أفكاره.. وبدأت أنا فى البحث عن الأفكار «المريضة» التى يجب أن أتمرد عليها.. وبالطبع وجدت الكثير.. ولكن أهم هذه الأفكار التى قررت التمرد عليها هى فكرة «دفن الرأس فى الرمال».
«دفن الرأس فى الرمال» هو أن أترك المسجد الأقصى بدون زيارة ولا حجيج ولا عمارة منتظرًا أن يحرر المسجد الأقصى نفسه بنفسه ويرمم نفسه بنفسه ويراقب نفسه بنفسه.. «دفن الرأس فى الرمال» هو أن أترك أهل مدينة القدس العرب «المقدسيين» وحدهم فى مواجهة جنود الاحتلال الصهيونى بدون أن أشعرهم بزخم الزيارة والاهتمام وأنتظر منهم أن يتمسكوا بعروبتهم التى أهملتْهم وتركتهم فرادى.. «دفن الرأس فى الرمال» هو أن يُسجن أخى فلا أذهب لاستخراج تصريح زيارة لزيارته بحجة عدم الرغبة فى التعامل مع السجّان.
لا أعرف أى منطق هذا !!
الخلاصة.. اعتمدتُ على نفسى.. واستغللتُ ما أفاء الله علىّ من شهرة.. وقررت كسر هذا الحاجز الفكرى وهذه الأكذوبة «غير مفهومة المصدر» التى تسيطر على الإعلام وقررت الذهاب إلى «رام الله».
فى البداية خشيت من الإعلام ومن الهجوم المنظم الذى سيشنّه علىّ الإعلام الموجه ضد فلسطين وضد قضية المسجد الأقصى.. ولكن بعد تفكير وجدتُ أن الأمر يستحق المخاطرة وأعلنتُ بكل جرأة أننى مسافر إلى «رام الله».
«رام الله» عاصمة حكم السلطة الفلسطينية ورغم صغرها وصعوبة الحياة النسبية بها فإنها تعتبر أكثر مدن فلسطين رفاهية ووفرة فى الخدمات.. ولكى تصل إلى رام الله لابد من المرور عبر جسر الملك حسين وهو معبر يسيطر عليه الجيش العربى الأردنى ثم مرورا بالحاجز الإسرائيلى وهو المرحلة الأسوأ فى الرحلة كلها ثم تصل إلى الأراضى الفلسطينية.
فى عمّان «عاصمة الأردن» استقبلنى الوفد الفلسطينى بالمطار استقبالا حارا وودودا وبصحبته بعض وسائل الإعلام واصطحبونى وفريقى إلى المعبر الأردنى ثم الحاجز الإسرائيلى.. فى الحاجز الإسرائيلى استقبلتنى فتاة إسرائيلية إلى قاعة كبار الزوار «vip» وطلبت منى جواز سفرى وأخبرتنى أن لديها تعليمات بعدم ختم جواز سفرى بأى أختام إسرائيلية.. أعطيتها الجواز وتبادلنا الابتسامات الصفراء وشرعت فى إنهاء الإجراءات بسرعة وكأنها تريد أن تتخلص منى ومن مدير أعمالى المرافق لى بأى وسيلة.. فى هذه الأثناء كانت حقيبة سفرى قد انتقلت من سيارة الوفد الفلسطينى إلى سيارة إسرائيلية خاصة بكبار الزوار «بعد أن خضعت للتفتيش بالطبع» وانطلقنا إلى نقطة التفتيش الفلسطينية.. فى الطريق حاول السائق الإسرائيلى - الذى يجيد اللغة العربية بطلاقة - أن يتجاذب معى الحديث عن مصر وأحوال مصر وعشقه لمصر ومعرفته ببعض الأحياء الشهيرة فى مصر، ولكنى كنتُ باردا معه ولم أتجاوب فانصرف عنى إلى مدير أعمالى الذى عامله بنفس الطريقة فسكتَ واكتفى بالقيادة.
وصلنا إلى نقطة التفتيش الفلسطينية وعادت الحرارة إلى أجسادنا وقلوبنا وبدأت حفاوة العرب فى الظهور.. شربنا القهوة وأشعلنا السجائر فى الأماكن التى يُمنع فيها التدخين كشكل من أشكال التعبير عن معاملتى الاستثنائية وركبنا السيارات إلى الفندق.
مدينة «رام الله» تشبه كثيرا مدينة «بيروت» جوها ساحر وطبيعتها جبلية وخضارها ظاهر وأهلها يتمتعون بالجمال وخفة الظل وهواؤها نظيف وأزقتها ضيقة ومنحدرة ومعظم مبانيها قديمة ولها هيبة.
أمام الفندق كان الاستقبال مشرفا ومتحضرا ومنظما.. أعطونى برنامج الزيارات التى سأقوم بها.. وجدتُ فيه زيارة لضريح «محمود درويش» وزيارة لضريح «ياسر عرفات» وزيارة لأسرة الأسير «فؤاد الشوبكى» أكبر أسير - سنا - فى السجون الإسرائيلية والملقب بقبطان فلسطين.. فى غرفتى دخلتُ على صفحتى على الفيس بوك لأعلن وصولى فعلمتُ من أعضاء «رابطة محبى هشام الجخ» أن الهجوم قد بدأ علىّ.. وأن هناك بعض الصحف كتبتْ «هشام الجخ يزور إسرائيل».. ابتسمتُ وتأكدتُ أننى فى الطريق الصحيح..
سأروى لحضراتكم ما حدث فى الأيام الأربعة المقال القادم.
عدد الردود 0
بواسطة:
ناصر دويدار
الحرامى