قبل أكثر من 50 عاما عندما كان "خضير البورسعيدى" يخطو أولى خطواته فى فن الخط العربى، كان موسم الحج يمثل بالنسبة له أياما ينتظرها من عام إلى آخر، حيث تتعاقد معه أسر الحجيج فى مدينته بورسعيد (شمال شرقى مصر)، إحدى مدن منطقة القناة، ليصنع بريشته فرحة جدران المنزل بعودة صاحبه من رحلة الحج.
ومن العادات القديمة التى حرص المصريون عليها لسنوات، وتراجعت الآن فى بعض المناطق واختفت فى أخرى، هى الرسم وكتابة آيات الحج بالقرآن الكريم على جدران المنازل، وذلك حتى تشارك الجدران فى التعبير عن الفرحة بعودة صاحب المنزل من موسم الحج، وحصوله على لقب "الحاج".
ورغم أن خضير، الذى يعد من أشهر ومن أقدم الخطاطين فى مصر، قد وصل إلى آفاق بعيدة من الشهرة، لكونه الخطاط المصرى الوحيد الذى قام بالكتابة على ستار الكعبة فى عام 1982، على حد قوله، إلا أنه وهو يقف أمام نموذج لهذا الحدث المهم فى حياته داخل متحفه الخاص الملاصق لمكتبه فى القاهرة، يبدو أكثر سعادة وفرحة بتاريخه فى الاشتراك فى صناعة فرحة الجدران بعودة الحجيج.
يقول خضير، وهو يعود بالذاكرة إلى 50 عاما مضت، "كنا نمضى أياما فى الكتابة على جدار أحد المنازل، نكتب الآيات الخاصة بالحج، والرسوم مثل شكل الكعبة، والوسيلة التى استخدمها الحاج فى السفر سواء كانت الطائرة أو الباخرة، كما كانت محافظات القناة (من الشمال إلى الجنوب بورسعيد، الإسماعيلية، السويس) تشتهر بمفردها إلى جانب ذلك برسم عروسة البحر ذات الوجه البشرى الجميل وجسم السمكة مع هذه الأشياء".
"ومثل كثير من العادات الجميلة فى حياتنا التى ترتبط بالماضى واختفت الآن، توارت هذه الحرفة بمرور الزمن، ولم تعد الجدران مهتمة بمشاركة أهل المنزل فرحتهم بعودة الحاج، ربما لأن فرحة أهل المنزل لم تعد كما كانت فى الماضى"، هكذا يصف خضير الواقع اليوم ويعتبره أحد الأسباب الرئيسية لـ"انحسار" مهنته.
ويمضى فى ذكر الأسباب الأخرى، ومن بينها أنه "لم يعد هناك الرسام الفطرى الذى يبدع مثل هذه الأعمال الجميلة، كما أن الحداثة طغت على كل شىء، فأحد أسباب جمال الرسوم التى كانت تزين الجدران أن المادة التى تستخدم فى الرسم طبيعية".
ويلفت خضير إلى أنه كان يستخدم فى الرسم "أتربة ملونة يتم صقلها بمادة الغراء التى يستخدمها العاملون بمهنة النجارة"، مضيفا "وقبل أن يضع الرسام ريشته على الجدار، كان يقوم بطلاء واجهة المنزل بمادة الجير الأبيض، حتى يمكن الرسم عليها".
ويتذكر الخطاط البورسعيدى الشهير، الأجر الذى كان يحصل عليه الرسام فى فترة الخمسينيات من القرن الماضى، وهو "مبلغ لا يتعدى خمسين قرشا، لكنه كان ذا قيمة كبيرة وقتها، وهو أقل بكثير من المبلغ الذى يستحقه الفنان الفطرى، إذا قيمت أعماله تقييما فنيا عادلا".
ومن أبرز الكتابات التى كان يخطها "البورسعيدى" على جدران منزل الحاج العائد: "حج مبرور وذنب مغفور"، و"يا داخل هذا الدار..صلى على النبى المختار" و"يا زاير بيت الله..تروح وترجع بحفظ الله".
ويعود خضير المولود فى عام 1946، إلى فترة السبعينيات من القرن الماضى عندما زار فنان الكاريكاتير المصرى الشهير، الراحل، بيكار، محافظة بورسعيد وأبدى إعجابا برسوم فنانيها على الجدران، وقال مقولته الشهيرة "لو وضعت هذه الرسوم على لوحات وعرضت فى معارض لبيعت بآلاف الجنيهات".
"لكن على ما يبدو لم يكن الفنان الفطرى يهتم بآلاف الجنيهات، أكثر من اهتمامه بإشباع رغباته الفنية"، بحسب خضير، الذى لا زال يتمسك بالمسلك ذاته، رغم وصوله لأقصى درجات الشهرة فى عالم الخط العربى.
ويحفل متحف خضير الخاص بمئات الأعمال التى تجذب الأنظار، لكنها ليست للبيع مهما كنت الإغراءات، وفق ما كتبه خضير على لوحة كبيرة تتصدر متحفه.
ومن بين أبرز تلك الأعمال "البروفات" الخاصة بالآيات التى كتبها على ستار الكعبة فى 1982.
ويتخلى خضير عن ابتسامته التى ارتسمت على وجهة طوال اللقاء وهو يتحدث عن هذا الحدث المهم فى حياته، ويروى وقد اكتسى وجهه بملامح جادة "لولا هذه البروفات لضاع حقى الأدبى، بعد أن محوا اسمى من هذا العمل، لأسباب لا أعرفها إلى الآن".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة