قررت المادة 225 من الدستور الجديد أن: "يعمل بالدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه فى الاستفتاء، وذلك بأغلبية عدد الأصوات الصحيحة للمشاركين فى الاستفتاء". أول ما يتبادر إلى الذهن لدى قراءة ذلك النص هو أنه يؤسس لقاعدة جديدة ــ فاسدة ــ فى علم القانون مفادها أنه "يجوز أن يتضمن مشروع الدستور نصوصاً تنظم كيفية إصدار نفسه". المفارقة الصارخة هنا تكمن فى أنه لا يجوز، ولا يتصور، أن يتضمن "مشروع" قانون أو دستور مواد تحدد كيفية إصداره، ذلك أن كلمة مشروع تعنى أن الدستور لم يصدر بعد ومن ثم فهو غير نافذ. ومن بديهيات علم القانون، وبحكم المنطق أيضاً، أن القاعدة القانونية (دستوراً كانت أو قانوناً أو لائحة) لا تنظم ولا تحكم إلا الوقائع اللاحقة على إصدارها. سؤالان ينبغى طرحهما الآن، الأول: كيف وضِعت ــ أو قبل أن يوضع ــ هذه المادة فى الدستور الجديد؟ أما السؤال الثانى، الأكثر أهمية، فهو: لماذا وضعت هذه المادة فى الدستور الجديد؟
وضعت هذه المادة لأن جميع الإعلانات الدستورية التى صدرت بعد الثورة (ابتداء من إعلان 13/2/2011 وانتهاءً بإعلان 8/12/2012) جاءت خالية من أية نصوص تنظم كيفية إصدار الدستور الجديد من حيث الأغلبية المتطلبة لإصداره، وهو ما كان يجب أن يحدث حتى يكون الجميع على بينة من أمره حين الاستفتاء، حاصل ما تقدم أن الدستور الجديد الذى صدر فى ديسمبر من العام 2012 صدر من دون وجود نص، نافذ قبل الاستفتاء، يحدد النسبة المطلوبة للموافقة على مشروع الدستور، فعلى أى أساس صدر الدستور الجديد؟!
إذا ما تركنا ما تقدم جانباً ــ نظرياً ــ وهو لا يترك ــ وتعاطينا مع المادة 225 من الدستور الجديد كما هى، فإن لنا عليها الملاحظات الآتية:
أولاً: استقرت نظم الحكم على تطبيق قاعدة الاحتكام لرأى الأغلبية فى مجال الممارسة السياسية. والأغلبية المقصودة هنا لها أشكال عدة، فإما أن تكون أغلبية عادية وهو ما يساوى نصف أصوات الناخبين الحاضرين، أو تكون أغلبية استثنائية، كثلثى، أو ثلاثة أرباع أصوات الناخبين. وهذه الأغلبية الاستثنائية عادة ما تطبق عند اتخاذ خطوات سياسية كبيرة. أبرز الأمثلة لتطلب هذه الأغلبية الاستثنائية هو إصدار دستور جديد أو تعديل دستور قائم. ومن تطبيقات ذلك نشير هنا إلى أن إصدار أقدم الدساتير المكتوبة ــ فى العالم ــ الذى ما زال مطبقاً حتى اليوم، وهو دستور الولايات المتحدة الأمريكية، جاء بعد موافقة ثلاثة أرباع الولايات الأمريكية المستقلة حديثاً. كان من نتيجة ذلك ــ وعوامل أخرى ــ أن كان الدستور الأمريكى عاملا من عوامل استقرار الدولة والمجتمع على امتداد ما يزيد على قرنين من الزمان.
ثانياً: أن اشتراط هذه الأغلبية الضعيفة (نصف الناخبين زائد واحد) للموافقة على دستور جديد للأمة مسألة تصطدم بجوهر فكرة التوافق حول الوثيقة الدستورية. فمن المقبول أن تتغير حكومة أو أن ينتخب برلمان أو رئيس للدولة بأغلبية عادية (نصف الناخبين) فهو أمر دورى يحصل كل عدة سنوات فى إطار من تداول السلطة وداخل إطار واضح من القواعد الأساسية المنظمة للدولة، ولكن، على الجانب الآخر، من غير المقبول أن تتغير هذه القواعد الأساسية كلها (الدستور) بنفس أغلبية التداول السياسى للسلطة.
ثالثاً: ثمة متناقضات ــ إضافية ــ ينبغى التوقف أمامها. أولها أن الجمعية التأسيسية وضعت لنفسها قاعدة حال التصويت ابتغاءً للتوافق على مواد الدستور مفادها أن كل مادة من المواد لابد أن تحصل على موافقة سبعة وستين (أكثر من الثلثين) عضوا على الأقل من أعضاء الجمعية المائة، فلماذا تبنت الجمعية هذه الأغلبية حال التصويت على مواد الدستور ولم تطبقها لدى التصويت الشعبى على مشروع الدستور بأن تجعل شرط الموافقة على الأخير حصوله على موافقة ثلثى أصوات الناخبين لا نصفهم فحسب؟ أليست الموافقة على الدستور بتوافق شعبى أولى وأهم من التوافق، الذى لم يحدث، داخل الجمعية؟
ثانى المفارقات فى هذا السياق تظهر من قراءة المادة 218 من الدستور، حيث قررت أن تعديل الدستور لا يتم إلا بعد موافقة ثلثى أعضاء البرلمان بغرفتيه، مجلس النواب ومجلس الشورى. معنى ذلك أن صانعو الدستور قرروا أن تعديل الدستور، وليس إصدار دستور جديد كاملا، ينبغى أن يحصل على موافقة ثلثى أعضاء البرلمان، حين أن إصدار دستور جديد لا يتطلب غير موافقة نصف الناخبين فحسب!! أليس ذلك مما يصطدم بالمنطق ويجافى أحكامه؟
إن دستورا جديدا يراد له أن يحكم البلاد لعقود قادمة لا ينبغى أن يصدر بأقل من موافقة ثلثى أصوات الناخبين، فذلك هو الحد الذى يمكن القول معه أن المجتمع نجح فى احتواء اختلافاته وحقق الحد الأدنى من التراضى الشعبى على عقده الاجتماعى الجديد، وهو ما سيؤسس لعقود قادمة من الاستقرار والتفرغ للعمل والبناء. وللحديث بقية بإذن الله.
* شهادة هيوبرت همفرى فى العلوم السياسية والقانون الدستورى-كلية واشنطن للقانون بالولايات المتحدة
عدد الردود 0
بواسطة:
يحيى
الدستور