أدهشتنى كثيرا تصريح الدكتور عصام العريان مستشار رئيس الجمهورية ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة التى دعا فيها اليهود المصريين إلى العودة مرة أخرى إلى مصر، بعد أن طردهم وهجّرهم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر على حد قوله.
تندرج هذه التصريحات تحت بند اللامعقول والعبث السياسى اللذين يسيطران على الأجواء المصرية منذ فترة ليست بالقريبة، وتأتى على لسان أحد أقطاب حزب الحرية والعدالة الحاكم وهو الدكتور عصام العريان المثير للجدل، والذى يتحفنا كل فترة بتصريحات عجيبة وغريبة فى مضمونها غير مكترث بعواقبها.
تصريحات العريان تنم أيضا على جهل بالتاريخ ومحاولة تزييفه.. فجمال عبد الناصر لم يقم أبدا بتهجير اليهود المصريين وإجبارهم على الرحيل، بل كان هؤلاء يعيشون فى مصر خلال الحقبة الناصرية معززين مكرمين لأنهم فى الأول والآخر مصريون، وكل الحوادث التى كانت تقع فى تلك الحقبة من تفجيرات وتهديدات لليهود المصريين لإجبارهم على الرحيل كانت من تدبير الوكالة الصهيونية العالمية والمخابرات الإسرائيلية وذلك كله مثبت بوثائق بريطانية.
فقد كان اليهود يعيشون فى مصر منذ زمن طويل وحققوا مكاسب اقتصادية عديدة، إلى أن قامت حرب فلسطين سنة 1948 ثم قيام ثورة يوليو سنة 1952، وصدور قرارات التأميم التى أثرت بالتأكيد على بعض العائلات اليهودية، إلى أن قررت بعض تلك العائلات طواعية تصفية أعمالها وممتلكاتها والهجرة إلى إسرائيل.
كما أن الكثيرين يعرفون مايسمى بـ"فضيحة لافون" التى قادها جهاز الاستخبارات الإسرائيلى منتصف الخمسينيات عن طريق شبكة "لاجوشين" التى كانت تعمل بسرية لمساعدة اليهود فى الهجرة بأموالهم إلى فرنسا، وإيطاليا ثم إلى إسرائيل، فضلا عن محاولات إثبات عجز الحكومة المصرية عن حماية المنشآت خاصة الأجنبية منها.
هذه التصريحات ستفتح باب جهنم على مصر، لأن اليهود المصريين من حقهم المطالبة بتعويضات على تهجيرهم "قسريا" من مصر، قد تصل تلك التعويضات إلى مليارات الدولارات فى وقت تعانى فيه مصر اقتصاديا وماليا مع ورود تقارير عن انخفاض الاحتياطى الأجنبى إلى 12 مليار دولار، وانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار إلى أدنى مستوى له منذ 10 سنوات.. فهل تتحمل مصر هزة اقتصادية ومالية أخرى فى حال مطالبة اليهود بتعويضات؟ وهل تتحمل مصر - فى حالة رجوع هؤلاء اليهود والذين يقدروا بالملايين - عبئا ديموغرافياً آخر ونحن تجاوزنا خمسة وثمانين مليون نسمة؟
عودة اليهود لا تمثل فقط عبئا اقتصاديا أو ديموغرافيا على مصر، ولكنها تمثل عبئا أمنيا أيضا وإضراراً بالأمن القومى المصرى، لأن هؤلاء عاشوا معظم حياتهم فى إسرائيل، وهم يدينون بالولاء والفضل الأول والأخير إلى الدولة العبرية، وذلك سيفتح الطريق أمام نشر الجواسيس فى مصر وعودة الموساد للعبث بأمن مصر القومى مرة أخرى.
إن الرئيس السابق حسنى مبارك بكل سطوته وجبروته وكونه كنزا استراتيجيا لإسرائيل لم يتجرأ أن يفتح هذه القضية يوما ما أو يثيرها، ويطالب يهود مصر بالعودة إلى وطنهم لأنه كان يعى جيدا عواقب الأمور وتداعياتها اذا أثيرت تلك المسألة وتم تدويلها لأنها ستسبب كارثة لمصر.
تصريحات العريان أيضا هى نوع من التقرب إلى الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، وكأنها رسالة ضمنية من أحد أقطاب الإخوان مفادها طمأنة الإدارة الأمريكية على التزام مصر بأمن إسرائيل وبالحفاظ على علاقات طيبة معها فى مقابل دعم الولايات المتحدة للإخوان لمواجهة تحديات الداخل من عدم استقرار سياسى وأمنى واقتصادى ومواجهة الانتقادات الحادة التى تواجه الرئيس محمد مرسى.
وبالطبع لم تفوت إسرائيل هذه الفرصة أبدا للصيد فى المياه العكرة، فقد احتفت وسائل الإعلام الإسرائيلية بالخبر واعتبرت عصام العريان بطلا قوميا ومحبا للشعب اليهودى فى محاولة للتقرب من القيادة السياسية المصرية "الإخوانية" بالرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين غير معترفة بالكيان الصهيونى.
إن على الدكتور عصام العريان الكف عن الحديث والتصريحات العقيمة التى لا تقدم ولا تأخر، والاهتمام بقضايانا ومشاكلنا الداخلية التى لا أول لها ولا آخر، فكان من الأجدى أن يتحدث باعتباره من صناع القرار ومن قيادات الحزب الحاكم عن رؤيته لكيفية تنفيذ مشروع "النهضة"، أو عن رؤيته لحل مشاكل العشوائيات والأمن والنظافة والوقود.. الخ، أو يبحث لنا عن حلول للتدهور الاقتصادى الذى تعانى منه مصر والذى يجعلها على شفا حفرة من إعلان إفلاسها لا قدر الله إذا لم نأخذ احتياطاتنا.. أو على الأقل المطالبة بحق الأسرى المصريين الذين ذبحوا فى نكسة يونيو 1967 على يد اليهود الذى يطالب بعودتهم إلى مصر!!
وعلى الرئيس محمد مرسى أن يطالب قيادات جماعته وحزبه عن وقف مهاتراتهم لما يمثله ذلك من إحراج له أمام الرأى العام الداخلى والخارجى، ولأن الشعب المصرى ببساطة شديدة اختار الدكتور محمد مرسى فقط ليكون رئيساً وليس معه قيادات الإخوان.
