تُعد قصة الفلاح الفصيح برسائلها التسع من أقدم القصص الفرعونية، وتأتى أهميتها ليس فقط بسبب زمنها- الذى يعود إلى نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد- ولكن بسبب أنها تُعد أهم وثيقة تتحدث عن العدل وأهمية أن يتحلى به الحاكم أو ولى الأمر بالدولة، وأهمية أن يدفع الظلم عن المظلومين ويردع ويعاقب الظالمين والمفسدين، فضلا عن أنها تكشف بُعدا آخر وهو سعة صدر الحاكم ووعيه الشديد الذى تجلى فى رغبته من أن يستفيد من نصائح الفلاح!!!. والتى أعطت الفرصة للفلاح المظلوم لكى يواصل طرح مظلمته ولا يتوقف عن مخاطبة الحاكم من خلال شكواه التسع.
أما فيما يتعلق بفكرة العدل فهى تطرح نفسها دائما وأبدا، طالما كان هناك إنسان وطالما كان هناك ظالم ومظلوم، وقاهر ومقهور، وقامع ومقموع. وستظل تلك الفكرة جديرة بالاهتمام والتناول فى كل العصور لأنها ستكون فى نهاية الأمر فى صالح المجتمع الذى يطبقها وكذلك فى صالح الحاكم الذى يسعى إليها.... إلى حد أن تُصبح فكرة العدالة هى الفكرة التى لا يمكن أن يبتعد عن تحقيقها بل ويتبناها أى مجتمع محترم يسعى نحو التقدم ويسعى إلى احترام أفراده.
وتحقيقا لفكرة أخرى لا تقل أهمية عن فكرة العدالة وهى فكرة الحرية. وهى علاقة بين الفكرتين دائما ما تُطرح أهميتهما وتُطرح المشكلات المتعلقة بهما وتدفع المفكرين والفلاسفة منذ أقدم العصور إلى مناقشة أمورهما من زاوية أيهما الأسبق من ناحية الاهتمام الحرية أم العدلة ؟! ولكن يمكن أن نقول إنهما مفهومان متشابكان لا يستغنى أحدهما عن الآخر، وبالرغم من هذا يمكن أن يفترقا بل ويتعارضا، ويحدث هذا عندما يتحقق أى مفهوم منهما ولا يتحقق المفهوم الآخر، فما قيمة أن يكون هناك عدل فى مجتمع من المجتمعات ولا تكون هناك حرية؟؟ والعكس صحيح أيضا. وأحيانا يتم التغاضى عن فكرة العدل من أجل مزيد من الحرية بحجة أن الأفراد يحتاجون إلى حرية الرأى من أجل التعبير عن حياتهم ومعتقداتهم، لكنهم حين يستشعرون أن ثمة ظلما واقعا عليهم برغم ما يمارسونه من حرية فإنهم سرعان ما يعودون إلى المناداة إلى تحقيق العدل قبل تحقيق الحرية، وذلك لرفع الظلم الواقع عليهم.
وكما نرى فإن العلاقة بين المفهومين علاقة مضطربة، ومن أجل ألا تصبح كذلك فلابد من السعى نحو تحقيق المفهومين بشكل متوازن بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، فلا معنى للحرية مع غياب العدل، ولا معنى للعدل مع غياب الحرية.
وعلى الرغم من أن قصة الفلاح الفصيح ترجع أحداثها إلى العهد "الأهناسى،، فى فترة حكم الملك (خيتى) أحد ملوك هيراكليوبولس (أهناس المدينة) فى نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد، أقول: على الرغم من ذلك فإن هذه القصة تكشف لنا، أن الرجل البسيط خلال هذه الفترة كان فى استطاعته أن يرسل شكاواه ليس فقط إلى المسئولين فى الحكومة بل فى استطاعته أن يرسلها إلى الحاكم نفسه بدون وجود أى حواجز تمنعه من القيام بهذا الفعل، وعلى الرغم من أن العهد كان عهدا تسود فيه الفوضى ويعم الاضطهاد. إلا أن الحاكم لم يدر ظهره لشكوى الفلاح بل أهتم بها بل وأصدر أوامره بأن يواصل ما بدأه من تعبير عن الشكوى لإعجابه بأسلوب الفلاح وشجاعته فى إبداء رأيه!! ولو الحاكم كان قد مارس أسلوب القمع مع الفلاح، لما كانت هذه الشكوى بما تحتويه من معان وقيم قد وصلت إلينا باعتبارها أثرا بليغا وصالحا للتطبيق حتى اليوم.
وتتلخص تلك الخطب التسع التى تم تدوينها فى شكل رسائل على ورق البردى، أن فى بقعة من بقاع مصر التى تعرف الآن باسم (إهناسيا) بمحافظة بنى سويف، كان يعيش فلاح فقير فى مجاهل (وادى الملح) المعروفة الآن باسم (وادى النطرون) معتمدا فى رزقه على ما تنتجه أرضه من محاصيل، يذهب إلى المدينة لكى يبيعها ويعود بالمال الذى يكفيه لحياته المعيشية طوال العام وذلك إلى أن يحين موعد الحصاد الجديد. وبينما هو يستعد لبيع محصوله فى مصر تعرض له أحد الموظفين الكبار بالدولة ويدعى (تحوت نخت) حين رأى حميره المحملة بالمحاصيل وأشياء أخرى جمعها الفلاح لكى يبيعها، ففكر فى الطريقة التى يستطيع بها الحصول على ما يريد. وتفتق ذهنه عن حيلة مؤداها: أنه أمر أحد رجاله بنشر بعض الملابس فى الطريق الضيقة التى سيمر عليها الفلاح وحميره ونتيجة لذلك لم تستطع الحمير السير بسبب ضيق الطريق ويأكل حمار من الحمير حزمة من أعواد قمح الموظف فيتخذ من ذلك ذريعة للاستيلاء على متاع الرجل وحميره فهذا جزاء فعله كما قال!!! وطبعا عندما يطالبه الفلاح بإعادة ما سلبه منه عنوة يرفض ويقوم بضربه وإيذائه بدنيا ونفسيا. ومع بكاء الفلاح لمدة عشرة أيام محاولا استعطاف الرجل لكى يعيد له ممتلكاته وأمام تهاون الموظف فى رد تلك الممتلكات ولإحساس الفلاح بأن كل محاولاته قد باءت بالفشل، لجأ بعدها إلى حاكم المقاطعة التى ينتمى إليها الموظف المغتصب، ويدعى (رنزى) فيشكو إليه ما حدث من قبل (تحوت نخت) فيقوم (رنزى) طبعا بجمع مجلس الأشراف ليفصل فى هذا الموضوع. غير أن أعضاء المجلس لم يعلنوا حكمهم بسبب انحيازهم للأغنياء ونتيجة لذلك لجأ الفلاح إلى كتابة شكايته التى انبهر منها (رنزى). فرأى أن الأمر جدير بأن يعرضه على الملك وكان يدعى (نيكاورع). ولما أُعجب الملك بفصاحة الفلاح!! أمر بألا يبت فى أمره حتى يكرر الشكوى فيكون ذلك مصدرا للحصول على تسع رسائل أو خطب بليغة؟!!. وبعد انتهائه من كتابة الرسالة التاسعة يأمر الملك رئيس المقاطعة (رنزى) بإحضار الفلاح وتلبية مطالبه وتوقيع العقاب على المغتصب (تحوت نخت). وكانت العقوبة بالغة القوة ورادعة حيث أمر بأن تكون كل أملاك (تحوت نخب) الظالم والمتآمر ملكا للفلاح بما فى ذلك بيته.
ويتبين لنا من خلال قراءة قصة الفلاح الفصيح، أنها أقدم رسالة فرعونية كتبها أحد أجدادنا الفراعنة البسطاء، استطاعت أن تُنتج آثارها فى العصور التالية لها حتى وقتنا الحالى، الأمر الذى جعل مفهوم العدل مفهوما إنسانيا عاليا فى قيمته وغاليا فى تأثيره، فالفلاح الذى بدأ رسالته الأولى بنبرة إنسانية هادئة كما ذكرت لم يستطع أمام إهمال رسائله وشكايته أن يحافظ على هدوئه، فنراه فى الرسائل التالية (من الثانية حتى الثامنة) وقد ارتفعت نبرة الغضب رويدا رويدا حتى أصبحت أقرب إلى الصياح والاحتجاج..... لنتبين كيف أن الفلاح كان فصيحا بالفعل، حيث نراه يضع قواعد الممارسة الفعلية لفكرة العدالة وليس فقط الحديث المجرد عنها، وهذه القواعد لا تختلف كثيرا عن القواعد التى وضعتها القوانين المعاصرة لنفس الفكرة والرسائل بهذه الصورة لتكشف عن مدى وعى المصرى القديم بتلك الأفكار الحرة والتى تعرضت لها الفلسفة الحديثة حتى الآن، ثم استفاد منها المشرعون حين قاموا بتشريع القوانين.
هذا الوعى هو ضمير الإنسان الذى هو عدالة الله فى الأرض، وهذا هو الذى ميز الشخصية المصرية القديمة وجعلها بالفعل ممثلة لأقدم حضارة فى التاريخ، فالمصرى القديم حتى ولو كان فلاحا فقيرا يملك من الوعى ما يمكنه من الوقوف فى مصاف المثقفين بعقله ووعيه ليس بما يملكه أو بنسبه الذى ينتمى إليه كهبة من الله؟؟ وأخيراً فبهذا الوعى الحضارى يجبر الحاكم على الانصياع لطلباته، طالما أنها طلبات تصب فى صالح الإنسان قبل أى شىء آخر.
ولو أن الحاكم كان ديكتاتورا مثلا؟ لما تنبه إلى أهمية تلك الخطابات ولأهمل ما جاء فى هذه الرسائل الطويلة، وربما كان قد أدخله المعتقل أو منعه الطعام ليموت مقموعا ومقهورا. لكن الذى حدث عكس ذلك تماما، إذ أن الحاكم انتبه لوعى ويقظة الفلاح وعمق تفكيره وقدرته الفائقة على الاحتجاج الحضارى غير الانفعالى، الاحتجاج المثمر الذى يجبر الآخرين مهما كانت سطوتهم على احترام طلباته واحترام لغته فى المخاطبة، تلك اللغة التى تُفصح عن انفعالات الفلاح البسيط المتباينة تبعا لطبيعة الظرف وتبعا لما بداخله فى اللحظة التى يكتب فيها.
والآن نستحضر كل ما هو متعلق بفكرة العدالة بشكل مباشر، وعندما أقول بشكل مباشر فإنما أعنى العبارات التى جاءت فيها كلمة (العدل) أو(العدالة) مباشرة، والتى كل ما سبق من سرد مرتبط بالفكرة ذاتها وليس منفصلا عنها يجىء أحيانا شرحا واضحا، وأحيانا يجىء بمثابة ضرب أمثلة وأحيانا أخرى يجىء تعبيرا عن أحاسيس داخلية يفصح عنها الفلاح فى سياق خطابه. هذا الوعى المبكر بفكرة الحرية ومفهوم العدالة هو الذى أتاح فيما بعد للحكام وللأفراد العاديين فرصة التعبير عنهما فى رسائل أخرى وكتابات فى مجال الشعر والقصة حتى الآن لتعرفنا وتشد أبصارنا إلى نماذج منها من خلال ما وصل إلينا من إنجازات الأدب المصرى القديم.
فهذه القصة تحتاج إلى تمعن وقراءة جديدة من قبل كل حاكم أو ولى أمر ظالم أو غافل، لعلنا من خلالها نستكشف أبعادا مهمة تتعلق بمفهوم العدالة والحرية، اللتين أشرنا إلى أهميتهما معا فى مقدمة هذا المقال، خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار أن الأمر قد تم قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام!! !! ولا ننسى قول الله تعالى فى كتابه الكريم "إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون فى الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم" سورة الشورى42.
وعن ابن عُمر رضى الله عنه عن النَّبى صلى الله عليه وسلَّم قال "يا أيها الناس إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة". فهل يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى الآن فى مصرنا الحبيبة ونحن على مشارف عصر جديد بعد ثورة 25 يناير، نتمنى أن ينتصر فيها مفهوم الحرية والعدلة فى كل أرجاء البلاد حتى يتسنى لنا بناء مصر على أرض نظيفة سمادها الضمير والتقوى والقرآن وحب رسول الله.
* فيزيائى بالمتحف المصرى الكبير.
د. منال ماهر تكتب: رسالة من حفيد الفلاح الفصيح
الأربعاء، 09 يناير 2013 09:43 ص