نحن هنا أقصد بها شعوبنا العربية وفى قلبها وفى طليعتها الشعب المصرى العظيم. هنا أحاول أن أجد حلا لمعضلة الالتباس فى فهمنا للديموقراطية.
أقول ذلك وكلى أسف على الترّهات التى نسمعها من بعض المثقفين العرب أنفسهم والتى ما هى إلا مجرد رجع صدى لموقف المثقفين فى الغرب، وملخصها أن الديمقراطية بدعة غربية ومنافية لثقافتنا العربية والإسلامية، وبكل أسف يروجون أن الإسلام يرفض الديمقراطية، وخاصة عندما نجد أن بعض مشايخ الإسلام يعتبرونها كفرا والعياذ بالله.
فى البداية أردت الرد على تراهات الغرب أن الديمقراطية صناعة غربية وأن الغربيين ديمقراطيون بالغريزة والوراثة الثقافية، وحب الحرية جزء بالغ القدم من تاريخ حضارة الغرب. هنا أتساءل كيف يكون هذا ودولة الإسلام الأولى جاءت لتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد كما قالها حامل رسالة النبى صلى الله عليه وسلم إلى عظيم الفرس. كلنا يعلم أن دولة الإسلام الأولى هى التى حررت العالم من حكم الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية بما فيهم من استبداد واستعباد للبشر لاينكره أحد.
يقولون إن الديمقراطية بدعة غربية ومنافية لثقافتنا العربية الإسلامية ولا أحد من هؤلاء انتبه لمغزى رفض الرسول (صلى الله عليه وسلم) تسمية أحد لخلافته ولو من أهله، ومغزى قوله {أمركم شورى بينكم} أو معنى تعيين الخلفاء الراشدين الأربعة بنوع من الانتخاب فى صورة أخذ البيعة. يقولون ذلك وكان أحد منهم لم يسمع بصرخة عمر "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا." بقولون ذلك ولا يتساءلون ما السبب فى كون أعتى الدكتاتوريات التى عرفها العالم هى النازية والفاشية والستالينية.
بكل أسف كل هذا التزوير والتدليس ماكان إلا خدعة كبرى روجها الاستعمار قديما ومازال يروجها إلى الآن خدمة لحكام لا يمكنهم الجلوس على كراسى الحكم إلا بالقمع والاستبداد والدكتاتورية. بكل أسف اختاروا لنا الدكتاتورية وحاولوا إقناعنا أن الديمقراطية لا تصلع فى بيئتنا العربية والإسلامية وأن الديمقراطية تتعارض مع ثقافة العرب والمسلمين.
بكل أسف وقع فى هذا الفخ الخطير بعض من مثقفينا وبكل أسف سقط فى هذه الحفرة الكثير من مشايخنا ورجال الدين فى بلادنا. لقد اختاروا لنا الدكتاتورية والقمع وهدفهم خبيث وهو حرمان شعوبنا من اختيار ممثليهم لعلمهم بهوى الشعوب العربية والإسلامية وشغفهم بهويتهم الإسلامية. بكل أسف دأب الحكام والغرب على تخويفنا من الديمقراطية، لأنها ستأتى بالإسلاميين إلى الحكم فكان الخيار بين الاستبداد او حكم الإسلاميين الفوضوى.
بكل أسف اقتنع حكامنا الديكتاتوريون والمستبدون أن الديمقراطية هى السبيل الوحيد لوصول الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية إلى كراسى الحكم. اقتنع حكام الظلم والاستبداد أن تداول السلطة بالطريقة السلمية والحضارية لن يسمح لهم بالجلوس على كراسى الحكم مدى الحياة ولن يسمح لهم بتوريثها إلى أبناءهم. فما كان منهم إلا الاحتكار والقمع البوليسى والترويج لثقافة معادية للديمقراطية.
بكل أسف هذا هو السبب الرئيسى وراء خوف بعض الحكام العرب من ثورات الربيع العربى وموقفهم المخزى منها، خوفهم على كراسى الحكم تسبب فى مواقفهم السلبية من شعوب خرجت تطالب بحريتها وحقها فى الديموقراطية وتداول السلطة. خوفهم من انتقال عدوى الحرية إلى بلادهم أجبرهم على الوقوف على الجانب الآخر ووفروا الملاذات الآمنة للهاربين وأموال الفساد التى نهبوها من الشعوب.
تاريخ الشعب المصرى طويل فى نضاله من أجل نيل الحرية، على مر السنين رفض الاحتلال والركوع والخنوع، هزم الصليبيين ومن قبلهم المغول ومن قبلهم الهكسوس. قام بثورات عديدة دفع فيها الغالى والنفيس دفاعا عن حريته من ثورة احمد عرابى إلى ثورة 1919م إلى ثورة يوليو 1952م إلى ثورة يناير 2011م المجيدة.
بعد ثورة يناير المجيدة شاهدنا العالم وشاهد الشيوخ قبل الشباب والنساء قبل الرجال يقفون فى طوابير طويلة للتعبير عن إرادتهم الحرة فى صناديق الحرية.
بعد ثورتنا المجيدة بكل أسف مازال البعض منا يعيش فى الماضى المستبد الذى خلعه الشعب ويستعصى عليه فهم معنى أن يكون لمصر رئيس منتخب أو فهم معنى أن ننتقل إلى المرحلة الدستورية أو فهم معانى أن يكون للشعب برلمان يختار أعضاءه بإرادة حرة. بكل أسف مازال البعض منا يريد لبلادى مصر الحبيبة أن تبقى سنوات فى فوضى المرحلة الانتقالية التى تميزت بالفوضى والانفلات وانهيار الاقتصاد.
بعد ثورتنا المجيدة مازال البعض لا يفهم معنى الحرية التى تعنى إن نقول ما نشاء ونفعل ما نشاء بشرط احترام الدستور والقانون وحرية الآخرين. الحرية التى تعنى حرية تكوين أحزاب بمجرد الإخطار، حرية التظاهر والاحتجاج للتعبير عن الرأى بشرط عدم التعطيل أو الاعتداء، حرية تكوين الجمعيات بمجرد الأخطار. الحرية جزء من عقيدتنا المصرية وعلى المتضرر من الحرية اللجوء إلى القضاء.
بعد ثورتنا المجيدة مازال البعض منا بكل أسف يرتجف من حرية التعبير عن الرأى مهما كان هذا الرأى، يرتجف من حرية الإعلام والنشر وتداول المعلومات، حرية القبول أو الرفض فى إطار القانون تحت ظل الدستور. فى الحرية كلنا مسئول عما يقول أو يفعل ولا مجال للعقاب الجماعى الذى عانينا منه عقود طويلة كوسيلة للقمع الجماعى.
نعلم أن هناك من يغرد خارج السرب وأن هناك من يسىء استخدام الألفاظ ويصل إلى السب أحيانا، نعلم أن هناك فوضويين وصانعى فتن ومؤامرات, ومع أنهم قلة فى كل طرف، ففى نفس الوقت نعلم أن هناك قانونا وقضاة شرفاء وقضاء عادلا ومستقلا.
بعد ثورتنا المجيدة مازال البعض منا يحاول الالتفاف على إرادة الشعب والبعض الآخر يطالب بتأجيلها والبعض الآخر لا يعترف بنتائجها لأنها ليست كما تهوى نفسه، والبعض الآخر مازال بعيدا عن العقلانية والمنطق. وبمكننا اعتبار كل ذلك ظاهرة صحية فى مجتمع بدا يمارس حريته وديمقراطيته حديثا بعد عقود طويلة من التزييف وغسل الأدمغة الممنهج.
لقد أقر الشعب دستوره الجديد وكل أبوابه ومواده تقدس الحرية وتكرس لحكم ديموقراطى حقيقى. الشعب صاحب السيادة وصانع الإرادة يحمى حريته ويحرس ديمقراطيته بدون أى وصاية من أى فرد أو جماعته أو حزب أو رئيس أو حكومة.
من على هذا المنبر أصرخ بصوت عالى وأقول ياسادة الحرية جزء من عقيدة الشعب المصرى، والديمقراطية جزء أصيل فى وجداننا وهى السبيل الوحيد لتداول السلطة، ولا شىء فوق إرادة الأمة، ولا نهضة إلا باحترام آليات الديمقراطية والتمسك بها مهما كانت النتائج، ولا سيادة إلا للشعب، والمساواة أساس العدل والعدل أساس الحكم، والقبول بالتعددية الثقافية والسياسية وقبول الآخر والتحاور معه وقبول مبدأ التعايش والمواطنة، احترام الحريات الفردية والعامة والقبول بآليات الديمقراطية واحترام استقلال القضاء وحرية الإعلام.
من على هذا المنبر الحر نستنكر ونرفض التشكيك فى وعى الشعب المصرى الحر، نرفض اعتبار السلطة غنيمة حرب يوزعها الحاكم على بطانته، نرفض دكتاتورية الأقلية، نرفض التمييز سواء كان سلبيا أو إيجابيا على أى أساس مهما كان، نرفض الإقصاء والتهميش، نرفض العنف بكل أشكاله سواء من فرد أو جماعة أو حزب أو مؤسسة.
أخيرا لا أجد تعارضا على الإطلاق بين الإسلام والديمقراطية وبين عروبتنا والديمقراطية، وأعتقد أن طريقنا إلى النهضة والريادة لا يكون إلا بالحرية والديمقراطية، وأعتقد أن التنمية التى ننشدها سبيلها العلم والتكنولوجيا فى البيئة الحرة والديمقراطية، وأعتقد أن الديمقراطية هى الطريقة المثلى للتعايش والسلام الاجتماعى. عاشت مصر حرة وديمقراطية.
صورة ارشيفية