كانت رواية الحرافيش لنجيب محفوظ وصفاً لحال الحارة المصرية فيما عُرف قديما بزمن الفتوات، فلكل حارة الفتوة والزعيم الخاص بها، وكان لهذا الرجل مقام عال فرضه بقوة "النبوت" وليس بالحكم الرشيد، فكان للفتوة الحق فى الاستيلاء على ما يريد من أهل الحارة، هذا ما يحكم به قانون الفتوة، ولم يكن الأمر يخلو من بعض المناوشات الضعيفة أو القوية بين هذه الحارة وجاراتها للفوز بالمزيد من الزعامة، وبالطبع المزيد من الأموال التى تعود بطبيعة الحال للفتوة الرئيسى، فيبسط حكمه على الحارة والحارات المجاورة بنفس الفكر الاستعمارى للدول الكبرى، ولكن هذه المرة فى الحارة المصرية. .
ولكل فتوة مجموعة من الأعوان الذين يطيعون أوامره، وبالطبع هم وسيلة البطش الرئيسية لديه، وكلما زاد عدد الأتباع زادت قوته وقدرته على البطش والزحف نحو الحارات المجاورة لبسط حكمه غير الرشيد عليها.
وها هو التاريخ يعيد نفسه ثانية، فنرى مجموعة من الشخصيات العامة يرتدون ثوب الفتوات، كل منهم يتباهى بما لديه من مؤيدين، فيدعوهم تارة للاعتصام فى هذا الميدان أو ذاك، يدعوهم تارة أخرى لمقاطعة هذا الاستفتاء أو التصويت بأحد الأمرين، سواء القبول أو الرفض، يبدأون المعارك ويسير المؤيدون بلا روية أو تفكير فيما يفعلون - إلا من رحم ربى -، يسيرون كالدراويش وكأنهم قد تركوا لهذه الشخصيات زمام الأمور يسيرونها كما تهوى أنفسهم، مكانهم شاشات التلفاز فى عالم الإعلام الشاذ صاحب الضيوف المتناقضى الرأى، لا لتعزيز مبدأ الرأى والرأى الآخر، ولكن تعزيز مبدأ الشجار والسباب، وما لهما من دور كبير فى جلب مزيد من الإعلانات، ومزيد من اللقاءات، أهل النخبة، ولا أحد يعلم من أطلق عليهم هذا اللقب غير أنهم باتوا نجوم الإعلام، فتارة فى هذه الصحيفة وتارة أخرى فى هذه المجلة، إلى أن يأتى وقت برامج التوك شو، وهنا الطامة الكبرى ينتقلون من هذه القناة إلى تلك ليكرروا كلاماً لا يسمن ولا يغنى من جوع، قولهم محض افتراءات وتخوين وتهديد ووعيد، بل وفى بعض الأحيان قد يصل الأمر إلى التكفير.
عصر الفتوات ولكن فى السياسة المصرية، السادة يظهرون بزى المدافعين عن الوطن، فيحشدون الأنصار للسيطرة على زمام الأمور فيكون الرد من الفتوة الآخر فيحشد أنصاره، ويستمر الحشد من كلا الطرفين، إلى أن تصل الكراهية إلى أقصى مداها، فتبدأ حرب الشائعات، وهى الطريقة المثلى لبدأ معركة من السهل جداً أن تسيل فيها الدماء، ولكن للأسف يسقط الأعوان، ويبقى الفتوة ينادى بمزيد من الحشد، يظهر ليبكى على أنصاره ويلوم أنصار الطرف الآخر، ولكن لمن الغلبة؟ .. هو سؤال بلا إجابة واضحة غير المتربصين بنا، فهم من الآن ليسوا بحاجة لأن يحاولوا تدميرنا، ففتواتنا يقومون بهذا الدور على الوجه الأكمل، وبدون أى تقصير أو توان.
أيها السادة سأمنا من صراعكم السخيف، والذى تضيع أرواح شباب الوطن من أجلكم، بينما أنتم مازلتم فى أبراجكم العاجية لا تسمعون إلا صوت غروركم، كفوا عن التناحر، وحاولوا أن تستمعوا لبعضكم البعض فليس منكم منزه ولا نبى.
أيها الشباب رجاء اتركوا هذه النخبة التى وجدت من قبل، ولم تستطع أن تحدث فى الأمر شيئا، وها هم يجنون ثمار كفاحكم الطويل، اجعلوا تفكيركم هو سبيلكم، ولا تجعلوا سبيلكم فى يد غيركم، واستقيموا يرحمكم الله. وكالعادة "ربنا يحرسك يا مصر".
نجيب محفوظ
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة