بينما أصحب صمتى وحقيبتى الصغيرة..فجأة، قابلنى ورأيت وجهه الباسم، بعد أن كنت أطالع اسمه على غلاف كتابه الشهير (زمن الصحوة)، وصافحنى قائلا: د ستيفان لاكروا أستاذ العلوم السياسية!
وتذكرت ذلك الدكتور الفرنسى المهموم بشئون الحركات الإسلامية، ودار بيننا نقاش عن الحركات الإسلامية، والواقع الاستشراقى، والنظرة الغربية التى ما زالت تتكئ فى كثير من تفاصيلها على ميراثٍ متراكم خلفته الذهنية الاستشراقية عن العرب وديار الإسلام.
كان لقاءً يشبه لقاء الأصدقاء، مهذبًا وصريحًا معًا، تركت من بعده د.ستيفان ومازالت معانى اللقاء تتكلم قى نفسى، وتتابعت الصور فى مدار الذاكرة، وانتقلت سريعًا إلى عام ١٧٩٨ يوم أقبل نابليون إلى مصر مصحوبًا بالزهو والخيلاء والكبر، تتقدمه المدافع التى تهدم الإنسان والعمران والتاريخ والحضارة المصرية النبيلة، وتقتل اليقظة الفكرية وحملتها من الكبار وطلبة العلم، وتسرق علومها المكتوبة وحياتها المخطوطة فى خزانات الكتب ومعاهد العلم والتدريس.
صدئت مدفعيته الجبارة أمام العقول المحصنة بصدق انتمائها إلى أمتها، والتى قادت جموع الشعب إلى مقاومة الغازى والثورة الباسلة التى أخرجته هاربًا من مصر إلى فرنسا.
ولكنَّ رجلًا فى دهاء نابليون ومكره كان يعلم أن المعضلة التى تحُول بين الاحتلال وامتداد نفوذه فى شعب من الشعوب هم ( نخبته) التى تحرر الفكر من سطوة التبعية، وتبعث العقل رشيدًا مستقلًا لا يستعير عين الآخرين ليبصر تاريخه ويعلم واقعه.
فأرسل إلى خليفته كليبر رسالةً يأمره فيها باصطفاء مجموعة من الأعيان والوجهاء؛ ليرحلوا إلى فرنسا لمشاهدة الحضارة الفرنسية فى جلالها الباهر ونورها الأخاذ، فإذا رجعوا كانوا مسكونين بهذه الدهشة (التابعة) والعقلية (المستعارة)، والذهنية (المستلبة)، وهى عوامل كافيةٌ لكى يكونوا نواةً لحزب فرنسا المصرى!
والدارس لسيكولوجية الاستعمار يعلم أنه يسعى سعيًا دائبًا فى حفر هوة ثقافيةٍ متجذرةٍ فى النفوس والأرواح أسماها فيما بعد المفكر الجزائرى مالك بن نبى "القابلية للاستعمار"، فتكون هناك عقول مهيأة للدفاع عن الجريمة الغازية، وإلباسها رداء التنوير والحداثة والتقدمية التى تهدم أصول التخلف والرجعية والظلام!
وبهذا يصير الاحتلال تحريرًا بعد أن كان جريمةً، وتنويرًا بعد أن كان عذابًا، وتخرج الجريمة من زنزانة الخيانة إلى منصة التكريم!
لم يكن مدهشًا أن يموت منا عشرات الآلاف فى نضال شعوبنا ضد المحتلين فى تاريخنا الطويل، ولم يكن شيئا استثنائيا أن تمتد الأسلحة فى حلوقنا تحاصر الحياة وتغتال الأبرياء..كل هذا إجرام، لكنه إجرام (كلاسيكى معتاد)!
لكن الدهشة الأليمة أن تحتضن العقول الجريمة باعتبارها عملا تنويريا، وأن يجد القتل فسحةً للبراءة والتشجيع باسم الثورة والمعارضة، وأن يهتف القانونى الحقوقى بين يدى الناس: العنف سيد الأخلاق!
وتنقلب الأوطان إلى خليجٍ من الدماء باسم الحرية والثورة وصك المباركة على يد الحزب الفرنسى الجديد!