عامان عصيبان مرا على بداية ثورة 25 يناير فى مصر، التى أطاحت بنظام رئيس ظل بسدة الحكم نحو 30 عاما، خلّف وراءه تركة ثقيلة من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كانت سببا فى انتفاضة شعبية وحدت عشرات الملايين من المصريين، مطالبين برحيله، لبدء عهد جديد تحت شعار " عيش. . حرية. . عدالة اجتماعية".
لكن يبدو أن طموحات المصريين فى الوصول إلى شاطئ "العهد الجديد"، تبتعد يوما تلو الآخر، مع تلاحق ضربات الاضطرابات السياسية والأمنية، التى لم تتوقف على مدار عامين كاملين، وتجددت مع الذكرى الثانية للثورة وكادت تصيب الاقتصاد المصرى فى العمق.
ووجد نظام الرئيس الجديد محمد مرسى، نفسه محملا بأعباء عام ونصف العام من الديون ونزيف حاد بحجم الاحتياطى من النقد الأجنبى، وتباطؤ معدلات الإنتاج بشكل كبير، لتضاف إلى تركة ثقيلة من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية ألقى بها النظام المخلوع فى وجه النظام الوليد.
غير أن إجراءات رئاسية، لعل أبرزها الإعلان الدستورى المكمل فى 22 نوفمبر الماضى، والذى هيأ المناخ بشكل عام لحالة من الاستقطاب الشديد والحاد فى الشارع المصرى بين مؤيد ومعارض، ومظاهرات حاشدة مع وضد الرئيس فى أنحاء الجمهورية، عطّل المساعى الإصلاحية وزاد عصا الاقتصاد نخرا.
وقال خبراء اقتصاد ومحللون ماليون، إن عثرات الاقتصاد المصرى خلال الفترة التى أعقبت ثورة يناير، ارتبطت بتكرار الاحتجاجات السياسية والاشتباكات الدموية، ومحاولة القوى السياسية المعارضة توجيه ضربات قوية للنظام المنتخب، عبر تأجيج مشاعر الغضب من صعوبة ظروف المعيشة، لدى الأغلبية المطحونة من الفقراء، الذين يئنون من تهميش على مدار 30 عاما سابقة.
احتياطى النقد الأجنبى:
تشير البيانات الرسمية عن البنك المركزى المصرى، إلى أن احتياطى البلاد من النقدى الأجنبى تراجع بوتيرة حادة من نحو 35 مليار دولار فى يناير 2011، إلى 14.4 مليار دولار فى نهاية يونيو 2012، ثم توقف نزيف الاحتياطى الأجنبى منذ بداية يوليو 2012، الذى تسلم فيه الرئيس الجديد البلاد، مسجلا ارتفاعا طفيفا ليصل إلى 15.5 مليار دولار خلال شهر يناير الجارى حسب وزارة المالية.
وقال الدكتور هشام إبراهيم، الباحث المصرفى، إن الاضطرابات السياسية التى شهدتها مصر بعد الثورة، أدت إلى خروج استثمارات أجنبية، وبالتالى هروب النقد الأجنبى، خاصة فى الفترة من يناير 2011 وحتى مايو 2012.
وأضاف إبراهيم: "تباطؤ معدلات الإنتاج وتدبير نفقات للاحتجاجات الفئوية التى انتقلت عدواها للكثير من الجهات الحكومية، أدى إلى تراجع موارد النقد الأجنبى وزيادة عمليات السحب من الاحتياطى لتمويل عجز الموازنة العامة للدولة وتوفير السيولة الكافية لاستيراد السلع الاستراتيجية للبلاد من مواد بترولية وسلع تموينية".
وتدعم الحكومة المصرية الوقود المباع للمواطنين والمصانع بنحو 114 مليار جنيه سنويا تعادل 17.2 مليار دولار، بالإضافة إلى 26 مليار جنيه تعادل 3.9 مليار دولار، دعما للسلع التموينية، ما يزيد من الضغط على النقد الأجنبى الاحتياطى.
وقال الدكتور حازم الببلاوى، نائب رئيس الوزراء ووزير مالية مصر الأسبق، فى مكالمة هاتفية: " لن تشهد مصر تحسنا اقتصاديا إذا لم تستقر الأوضاع السياسية".
وعصفت العديد من الأحداث السياسية بالاقتصاد المصرى، وقعت أغلبها فى فترة حكم المجلس العسكرى للبلاد حتى منتصف العام 2012، إذ تشير البيانات الاقتصادية الحكومية إلى تراجع معظم مؤشرات الاقتصاد فى الفترة من فبراير 2011 إلى ديسمبر 2011 أثناء تولى حكومة عصام شرف تحت حكم جنرالات من المجلس العسكرى، إلى أن تولى كمال الجنزورى تشكيل حكومة ساهمت إلى حد معقول فى استقرار المؤشرات الاقتصادية فى الفترة من يناير 2012 إلى يونيو من نفس العام.
سعر صرف الجنيه مقابل الدولار:
وقال الدكتور سلامة فارس، خبير الاقتصاد والمسئول السابق فى الهيئة العامة للاستثمار فى مصر، إنه تم تحميل النظام الحالى، مشاكل اقتصادية متراكمة منذ بداية الثورة فى يناير 2011 وعدد من السنوات السابقة عليها.
وأضاف: "بعض الأزمات التى شهدتها مصر، لاسيما ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه المصرى كان مفتعلا، وتدخل بعض رجال الأعمال المناهضين للنظام الحالى لزيادة حدة الأزمة، لوضع النظام فى مأزق".
وفقد الجنيه المصرى نحو 12% من قيمته منذ اندلاع الثورة، ليتخذ البنك المركزى عدة إجراءات من شأنها وأد أية محاولات لظهور سوق سوداء وعودة المضاربات عليه، بعد استقرار دام لنحو 8 سنوات بسوق الصرف.
واستنزفت الحكومات السابقة على حكومة الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء الحالى نحو 20 مليار دولار خلال عام ونصف العام، للدفاع عن الجنيه المصرى من الانهيار وتلبية نفقات الاحتجاجات الفئوية المتزايدة، ما أدى إلى تهاوى احتياطيات النقد الأجنبى لدى البنك المركزى خلال هذه الفترة.
وقال عادل طه المحلل المالى: "الاقتصاد المصرى بات يتكأ على عصا هشة بسبب ضربات متلاحقة للاحتجاجات السياسية"، مضيفا فى مكالمة هاتفية: "هذه الهشاشة لابد أن يتحملها الجميع، لكن يبدو أن قوى المعارضة تريد أن يتحمل الرئيس الجديد وحده فاتورتها".
التصنيف الائتمانى:
دفعت تداعيات الاضطرابات السياسية، مؤسسات التصنيف الائتمانى العالمية الثلاث "موديز" و"فيتش" وستاندرد أند بورز"، إلى تخفيض تصنيف مصر 5 مرات على مدار الماضيين.
لكن 4 مرات من هذا التخفيض جاء خلال العام 2011 وحده، بسبب الاضطرابات السياسية التى شهدتها فى أعقاب الثورة، فى حين تم خفض تصنيف مصر مرة واحدة، فى ديسمبر الماضى من جانب "ستاندر أند بورز" بسبب تجدد بعض الاضطرابات السياسية فى أعقاب احتجاجات بعض القوى السياسية، على مشروع الدستور الجديد للبلاد، الذى حظى بعدها بموافقة أكثر من 62% من المصريين فى استفتاء عام نهاية العام.
كما قامت وكالة "موديز إنفستورز سيرفيس"، للتصنيف الائتمانى، فى يناير الجارى، بوضع تصنيف سندات الحكومة المصرية، قيد المراجعة، لخفض محتمل فى التصنيف، بسبب حالة عدم التيقن بشأن الأوضاع السياسية فى البلاد ومدى قدرة مصر على الحصول على تمويل دولى.
وقال الدكتور فخرى الفقى، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة ومساعد المدير التنفيذى السابق لصندوق النقد الدولى، إن خفض التصنيف الائتمانى لمصر طبيعى فى ظل موجات متلاحقة من الاعتصامات والاحتجاجات السياسية ومشاكل بالموازنة العامة للدولة وعدم الوصول لاتفاق نهائى مع صندوق النقد الدولى لاقتراض 4.8 مليار دولار.
وأضاف الفقى فى مكالمة هاتفية: "تعافى الاقتصاد المصرى مرهون باستقرار الأوضاع السياسية، وحصول الحكومة على حزمة المساعدات التى تعهدت بها الدول المانحة، بجانب قرض صندوق النقد الدولى".
وقال أشرف العربى، وزير التخطيط والتعاون الدولى المصرى، مؤخرا إن الحكومة ستنتهى الأسبوع المقبل من تعديلات برنامج الإصلاح المالى والاقتصادى اللازم لاستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولى بشأن القرض.
الاقتراض والدين:
لكن الدكتور هشام إبراهيم، الباحث المصرفى، قال: "على الحكومة أن تبحث عن خطط اقتراض سريعة من مؤسسات التمويل الدولية، بجانب صندوق النقد الدولى للحصول على نحو 20 مليار دولار تحتاجها إلى تمويل عجز الموازنة المتوقع وصوله إلى 200 مليار جنيه فى يونيو المقبل".
وحذر إبراهيم من خطورة التوسع فى الاقتراض المحلى بسبب فوائده المرتفعة التى بلغت نحو 16% فى بعض المزادات التى يطرحها البنك المركزى نيابة عن وزارة المالية المصرية.
وارتفع الدين المحلى لمصر من 962.2 مليار جنيه فى يناير 2011 إلى 1.2 تريليون جنيه حتى مايو الماضى، لكنه واصل الارتفاع حتى بلغ 1.3 تريليون جنيه فى أكتوبر الماضى، حسب بيانات البنك المركزى المصرى.
وقال الدكتور إيهاب الدسوقى، أستاذ الاقتصاد بأكاديمية السادات فى مكالمة هاتفية: "ارتفاع الدين المحلى إلى تلك المستويات الكبيرة خلال الفترة الماضية ينذر بخطر شديد إذا لم تتدارك الحكومة الموقف وتبحث عن مصادر أخرى للتمويل".
معدلات النمو:
وتعول الحكومة المصرية، على استقرار الأوضاع السياسية لدوران عجلة الإنتاج والوصول بمعدلات النمو إلى 3.5% بنهاية يونيو المقبل.
وسجل معدل النمو خلال الفترة من يوليو وحتى نهاية سبتمبر من العام المالى الحالى 2012/2013 نحو 2.6%، مقابل 0.3% خلال نفس الفترة من العام المالى السابق، حسب وزارة التخطيط والتعاون الدولى.
البورصة:
وخلال العامين الماضيين اتجهت أنظار المستثمرين الأجانب والعرب صوب البورصة المصرية التى يرى كثيرون أنها مرآة للتعبير عن الوضع السياسى والاقتصادى فى البلاد، وسجلت كافة القطاعات المتداولة فى البورصة ارتفاعاً ملحوظا، خلال تعاملات العام 2012، حسب بيانات رسمية صادرة عن إدارة البورصة نهاية ديسمبر الماضى.
وكان قطاع الموارد الأساسية، أكثر القطاعات ارتفاعاً خلال العام الماضى بنسبة 146%، تلاه قطاع البنوك فى المركز الثانى محققاً نمو بلغ 82%، أما المرتبة الثالثة فكانت من نصيب قطاع العقارات الذى سجل ارتفاعاً بنحو 78%، تلاه قطاع الاتصالات بنحو 70%.
وواجهت البورصة أوقاتا عصيبة منذ اندلاع ثورة يناير، لتتكبد خلال عام الثورة 2011 خسائر فادحة، وصلت إلى 148 مليار جنيه تعادل 22.4 مليار دولار، بعد أن هوى مؤشرها الرئيسى نحو 50%.
لكن الخسائر سرعان ما توقف نزيفها بحلول العام 2012، وحلت مكانها المكاسب، التى تعززت فى النصف الأخير من العام عقب الانتخابات الرئاسية المصرية، لتنفض عن وجهها أثار غبار انهيار العام السابق، وتنجح فى استرداد جزء كبير من خسائرها بقيمة 82 مليار جنيه تعادل 12.4 مليار دولار، بعد أن قفز مؤشرها الرئيسى بنحو 50.8%.
وصعد المؤشر الرئيسى فى النصف الأول من العام 2012، حسب بيانات إدارة البورصة، بنحو 30%، ليسجل رأس المال السوقى مكاسب بقيمة 46 مليار جنيه، ليواصل المؤشر قفزاته صاعدا فى النصف الثانى بنحو 20.8%، ليكسب رأس المال السوقى 36 مليار جنيه.
وقال محسن عادل، العضو المنتدب لشركة بايونيرز لإدارة صناديق الاستثمار، إن عام 2011 كان كارثيا للبورصة، لكنها سرعان ما استجابت بقوة إلى بدء مؤشرات الاستقرار السياسى والاقتصادى فى 2012، لاسيما منذ تولى مرسى الرئاسة.
وأضاف عادل: "ظهرت العديد من الأحداث الإيجابية التى عززت من صعود البورصة فى 2012، ومنها اتخاذ قرارات أنهت حالة الارتباك فى ازدواجية الحكم بين مؤسستى الرئاسة والمجلس العسكرى، والتى تمثلت فى إحالة المشير محمد حسين طنطاوى رئيس المجلس العسكرى والفريق سامى عنان رئيس أركان للتقاعد فى أغسطس الماضى وإحداث تغييرات فى قيادات الدولة.
لكن العضو المنتدب لشركة بايونيرز، قال إن تجدد الاضطرابات السياسية بحلول الذكرى الثانية لثورة يناير يعيد الحذر والترقب إلى المستثمرين الذين يحددون قراراتهم الاستثمارية بناء على الأجواء السياسية للبلاد، مؤكدا أن وجود الدستور ومؤسسات الدولة المختلفة يمثل أولى علامات الاستقرار السياسى الذى تحتاجه البلاد، وبالتبعية سينعكس ذلك على الاقتصاد ككل وبصفة خاصة على البورصة.
وأضاف: " نجاح الانتقال السلمى للسلطة وتكوين مؤسسات الدولة يسهم فى وضع عملية الإصلاح الاقتصادى على الطريق الحقيقى والصحيح".
التضخم:
وبينما تشير بعض المؤشرات، إلى حدوث تحسن طفيف منذ تولى رئيس جديد لمقاليد الأمور للبلاد، إلا أن الشارع لا يزال يشعر بعدم حدوث تغير ملموس، وفقا لـ"محمود السيد" خبير الاستثمار، بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، وتأثر الأعمال غير الرسمية التى تمثل نحو 70% من السوق بالاضطرابات السياسية والأمنية، مضيفا أن تراجع معدل التضخم مؤخرا جاء بسبب حالة الركود التى أصابت الأسواق، وليس تراجع الأسعار.
ووفقا للبنك المركزى المصرى، تراجع المعدل السنوى للتضخم العام من 10.79% فى يناير 2011 إلى 8.30% فى مايو 2012، ثم إلى 4.66% ديسمبر الماضى.
الصادرات والواردات:
فى شأن متصل تصارع الحكومة المصرية من أجل زيادة حجم إيراداتها، لاسيما من السياحة والصادرات، أملة فى عودة الاستقرار للشارع.
وحسب بيانات رسمية للهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، حققت الصادرات المصرية 132 مليار جنيه العام الماضى 2012، مقابل 130 مليار جنيه خلال العام السابق 2011.
وبلغت قيمة واردات البلاد 300 مليار جنيه العام الماضى 2012، مقابل 336.8 مليار جنيه عام 2011.
السياحة:
كما سجلت حركة السياحة تحسنا خلال الفترة من يوليو وحتى نهاية سبتمبر الماضى، ليبلغ عدد الوافدين 3 ملايين و46 ألف سائح حسب بيانات البنك المركزى، مقابل 2 مليون و743 ألف سائح فى الفترة من أبريل وحتى نهاية يونيو 2012.
التظاهرات عطّلت مساعى الإصلاح وزادت عصا الاقتصاد نخرا.. خبراء: الاضطرابات أدت لهروب النقد الأجنبى.. ورجال الأعمال المناهضين للنظام افتعلوا أزمة الدولار.. والتحسن الاقتصادى مرهون بالاستقرار السياسى
الثلاثاء، 29 يناير 2013 11:14 ص