ثلاثة من أبناء بورسعيد، يروون مشاهد الدم فى المدينة الباسلة، أسلوبهم الأدبى باعتبارهم فنانين ومثقفين جاء ممزوجا بآلام الضحايا، هناك فى مدينة الحروب، لا فرق بين مثقف وبسيط، لا فرق بين غنى وفقير، الكل من رحم واحد رفض قرارات الرئيس، لكنهم جزء أصيل من الكل "مصر".
الأديب قاسم مسعد عليوة، يروى شهادته الأولى، والتى جاءت تحت عنوان، "نوارس بورسعيد الغاضبة تنفجر شظايا من لهب".. ويقول فيها، نوارس بورسعيد امتلأت حزناً واشتعلت غضباً ليست هى المرة الأولى، ولا هى الأخيرة، فهذا عهدها فى البلايا التى تبتلى بها مصر.. ضغوط فوق كل طاقات الاحتمال تحملتها نوارس هذه المدينة الموسومة بالبسالة والرغبة فى الافتداء.
ويضيف: "منذ عقود وعقود وبورسعيد تتحمل أشد وأقسى وأنكى الضغوط.. ضغوط تحزن لها، لكنها تتحملها وتتجاوزها، وأخرى تحولها إلى شظايا من لهب.. إلا الإهانة.. الإهانة التى تسببت فى كل هذه المآسى.. إهانة مدينة ذادت عن الوطن ولا تزال تذود.. مدينة هى رمز البسالة والفداء الوطنى، فى زمن الفساد والاستبداد حاول المفسدون المستبدون أن ينزعوا عنها أوسمتها فثارت وأبت إلا أن تنتصر لكرامتها التى هى من كرامة مصر".
ويستطرد الأديب البورسعيدى، "مدينتنا أعطت فى ميادين الحروب والسياسة المتعددة الدليل تلو الدليل على صلابة وقوة شكيمة نورسها، وبرهنت على أنه، وإن كان نورساً، إلا أنه إلى النسر أقرب، وأنه فى سبيل دفاعه عن مصر يفعل ما هو أكثر من الأعاجيب".
ويضيف، بمراعاة التغير من السىء إلى الأسوأ، فى ظل حكومات الفساد والاستبداد، تخيل نفسك وقد صرتَ نورساً بورسعيدياً تبحث عن بعض من إثارة مختلفة النكهة والمذاق.. إثارة شكلها مغاير.. لا تشبه أشكال الإثارة التى تعودتها على مدى العام، أنت تريدها مغايرة، لأنك شبعت حتى التخمة بالمظاهرات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية، وامتلأت حتى الفيض بمشاهداتك لعمليات السطو والحرق والاختطاف وقطع الطرق.. ولأنك نورس بورسعيدى من "ساسك لراسك" فقد دبت فيك الحمية لما شعرت ببدء احتدام أجواء التنافس الرياضى بين نادى مدينتك العريقة.. النادى المصرى العتيد، ونادى القاهرة الأسطورى.. النادى الأهلى الذى لم يهزم طوال مباريات دورى هذا الموسم هزيمة واحدة.. أنت تدرك، بحكم تحليقك فوق مدرجات النوادى الرياضية، اللدادة فى التنافس بين فريقى الناديين".
ويرصد قاسم أحداث ما جرى يوم المذبحة، قائلا: "أكثر من هذا يأخذ جمهور النادى المصرى الحقيقى الموجود فى المدرجات وبالتحديد فى المدرج الغربى فى الهتاف مستنكراً فعل الاقتحام وأخذ ينادى بأصوات متحدة متآلفة مطالباً كل من دخل أرض الملعب بالخروج منه: "اطلع.. اطلع"، "مش حاننزل.. مش حاننزل".. كل هذا ومغاوير الشرطة نائمون إلى أن يبدأ تنفيذ المخطط الذى تم إعداده بدقة قد بدأ تنفيذه للتخريب والقلقلة والإساءة إلى ثورة 25 يناير وإلى المدينة الباسلة والوطنية.. بورسعيد، وترى الحزن وقد عَمَّ المدينة، وتسمع قصة الشهيد البورسعيدى "يوسف محمد يوسف" الذى كسر الباب الحديدى "الملحوم" ليسقط تحته ويمر فوقه الفارون الفازعون فينقذهم ويموت؛ وتحلق فوق المظاهرات المواسية الغاضبة التى تطوف بعموم شوارع وميادين بورسعيد.. ورأيت البورسعيديين مذهولين لحجم الفاجعة، وحزانى للدماء التى سالت، والأرواح التى أزهقت؛ وغاضبون لأن المتآمرين على الثورة ومقدرات الوطن اتخذوا من بورسعيد ميداناً لمؤامرتهم.. وتتابع أهالى المدينة، والمرارة تقتحم حوصلتك، وهم يقبضون على بعض البلطجية ليستيقط رجال الشرطة بعد طول سبات فيقبضون على بعض من الشباب والصبية والغلمان وكل من يتصادف أنه يرتدى تيشيرت أخضر، فتتعجب لما حدث ويحدث.
ويقول، "هَمَتْ فوق المدينة وفوق رءوس أبنائها الإهانات تلو الإهانات عبر عدد من القنوات التليفزيونية والبرامج الرياضية وشبكة الإنترنت، وسمع وقرأ وشاهد البورسعيديون مثلهم مثل كل مواطنى مصر ما بثته وسائل الإعلام عن اكتشاف النائب العام لأدلة جديدة تستلزم إعادة النظر فى القضية، فساورتهم كما ساورت كل المواطنين المصريين الشكوك فى سلامة وصحة تحقيقات النيابة العامة، ثم جاءت جلسة النطق بالحكم فإذا بها ليست جلسة للنطق بالحكم وإنما بـ(قرار) إحالة أوراق 21 متهماً إلى المفتى، إنه إذن تخطيط آخر، تخطيط يُسيس القضية التى نشأت فى ظروف سياسية، وقد رسَّخ من هذا التسييس الشائعات التى راجت بأن المتهمين سينقلون إلى التجمع الخامس بالقاهرة، ويمثلون فى قفص الاتهام، وإزاء هذا التوتر يُحاصَر السجن تحسباً لأى قرار مباغت يقضى بالنقل، ثم القرار القاسى الذى لم تدخل عند اتخاذه الأدلة التى أحالها إلى المحكمة النائب العام".
ويضيف، "أرجو ألا يُفهم أن بورسعيد الباسلة لا تريد إعمال القانون، فهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، فالمدينة كلها طالبة عدل، لكنها تشعر بالضيم منذ عقود وعقود، لأنها وقد طالبت بتطبيق العدالة على الجناة منذ بداية المأساة، لم تكن لتتوقع أن ما فعله من صنعتهم آلة الفساد والاستبداد التى ثاروا عليها سوف يعود عليها بضيم أكبر وأشنع مما تعودته.. وكل هذا وذاك "كوم" ورد الفعل السلطوى الذى أعاد العمل بقانون الطوارئ ونظام حظر التجول الذى ضم منطقة قناة السويس بأسرها "كوم" آخر ومخطط آخر.. أشعر أنكَ قد صرتَ نورساً عجوزاً من هول ما شاهدت وسمعت، ولرؤيتكَ نوارس بورسعيد الغاضبة إذ تنفجر شظايا من لهب، فسامحنى فما يحدث فى بورسعيد ومدن قناة السويس شيبنا، وشيب من هوله الغراب الأسحم.
الشهادة الثانية للأديب الدكتور أحمد يوسف عزت رئيس نادى الأدب المركزى، والتى جاءت تحت اسم "عَرُوْسَةٌ خَشَبِيَّةٌ تَرْقُصُ عِنْدَ المَصَبِّ".
ويقول الأديب، "أتذكر عم جلال العاصى.. جد منطقتنا العجوز، كان يأتينا فى حى المناخ.. قَصَّ علينا سيرة ويلات 56 المجيدة، ومعاناة أبناء بورسعيد فى الغزو والحِصار، والصمود جرجر جثة الفدائى المصرى أسكنه ضريح المركب الخشبى (جمال)، وأرسل شراع البحر لحدا، وقرأ على ملامحه الآيات المعوذات، احتفظ فى فمه بإصبع الفدائى المشحوذ من أثر المذبحة؛ عساه يعيد إليه دفء الحياة التى مهما طالت قصيرة، يستطيع عم (جلال) أن يعاقب البحر، يلطمه على "غمزاته" دون أن تنقلب أرداف الفلوكة.. يستطيع أن يفعل أشياء كثيرة، عم جلال يتذكر أنه رأى جثة واحدة أخرى فى وطيس موقعة القنصلية الإيطالية، التى استشهد فيها الفدائى البورسعيدى: (السعيد حمادة) كانت 56 حربا مدوية الفحيح، غبارها آت من ثلاث دول، عظمى يحبون بورسعيد لأنها ثغر مصر، يعلمون كابرا عن كابر أن النوارس ضفائر شقية من خصلات مصر.
ويضيف، "الملاحون، وحافرو قناة السويس، وحماقات الأطفال العبقرية المبدعة عند تمثال الملكة فيكتوريا، والأديب العظيم: حلمى الساعى الذى أرخ معاناة بورسعيد 56 فى ملحمته الخالدة (عشر أيام مجيدة) والشاعر إبراهيم البانى (قيصر العامية المصرية) الذى تنبأ بقرب عودته لأنثاه المحبوبة بورسعيد عقب الهجرة فغرد (فجر الرجوع أهو لاح) وعم كامل عيد هيرودوت البحر، الفتى الجسور الذى استبقى حاميا حمى معشوقته، بصحبة حوارييه فريق شباب النصر للفنون السمسمية والتلقائية، كان البطل يقتات بوجبة واحدة فى اليوم من ثمرات البطاطا، لكن البحر وعده إحدى الحسنيين، والبطل مهران الذى قدم عينيه قربانا لمصر كلها، والسيد عسران المعجزة الذى لم يخش الموت ولم يطر شاربه بعد، فألقى قنبلة على سير ويليامز الغاصب الغشوم استودعها رغيف خبز للتمويه، واضعا مضغة أحشائه حشو القنبلة البدائية، باعثا قبلة شوق وكبرياء لبورسعيد أو.. لمصر، ومحمد عبد القادر رب قصيدة الأسماك، صاحب طرح البحر، جنيات الشعر صنيعة (الريشة/ الصنارة) أكاديمية البحر المجذوب بحب الوطن، وقائد كتيبة الفدائيين أحمد نصر شحبر، الذكريات جاشت بروحى، جعلتنى أتجاوز الخمسين خريفا مجازا".
ويروى، "أنظر مندهشا إلى الشوارع فرنسية التصميم، وقدس هطل على بلاطاتها البازلتية النبيلة، زخات من دم ثخين، هالات الضوء المنثور فى أقبية من أسواق الحَميدى والتِّجارى، وشارع المَجْدِ محمد على، وكنيسة القديس مارى مرقص، والثلاثينى العظيم، ورقة ميدان المنشية الفخم، والأحياء المأهولة بروائح (البَرْبُوْنِى) الطازج فى القابوطى، كيف انقلب الرمل الطيب فى الشطآن العذراوات إلى مقبرة لنشاز يصنعه عزرائيل (المقروطة) وقبح ينحت آياته (كلاشينكوف)، ونباح الأسلحة البيضاء والسيوف، لم يبق إلا بخار من حريق أفران الشظايا، ورائحة شواء اللحم الإنسانى، تسوخ قدماك بأنهار كالوحل ثقيلة البوح، ليست تشبه البحر الرشيق كعصفورة بالية، بل من دم بليد يأبى أن يتخثر، ما الذى جرى لمدينتى الباسلة، مَنْ قَتَلَ مَنْ؟! أتفرس فى وجوه زاهقى الأرواح، الجلد من لون الجلد، وسيميترية الوجه الفرعونى ذاتها فى الحالين، السمرة الوقورة تعلو قناع الروح هنا وهنا، فما من مجال لـ(هناك) حرارة أنفاس اللاهث والملهوث تتلو الإيقاع عينه، بلدتى تأكل سيقانها، رُسُل المشيعين تترأى، تلحقها جِنازات من مشوا فى الجِنازة، يعقبها مأتم مَن مشوا فى جِنازة مَن مشوا فى الجِنازة، الموت ككل شىء فى مدينتى سقطت هيبته، بورسعيد، فردوس الأخضر يتفحم، وقبلة الحياة باتت قنبلة، وفجأة نفخ البوق الملكى، معلنا حظرا للتجوال من التاسعة مساء إلى السادسة صباحا، لمدة ثلاثين يوما، وماذا عن عم جلال العاصى؟! الذى يركب البحر وعليه وضوء العتمة لصلاة الفجر، قبلته البحر وسجادته نور القمر الشاحب، المدينة ترتحل إلى أرزاقها حين يؤذن (بلال الشمس) بالشفق، تعدو الناس (لا أتحدث عن المرتزقة المأجورين، وتجار المخدرات، ومروجى الضوارى، وباعثى الشغب، ومخلفات من صدأ الفلول، ومحاصصات عصابات الغثاء التى يصفى بعض أفرادها بعضا، وسماسرة الأزمات الذين يعيشون على الجيف كالنسور، فإنها بلوى طامة سببتها جغرافيا المدينة والفلتان الأمنى والفوضى الضرورية عقب الثورات، وهم فى عموم الوطن منتشرون، وإن كانت النسبة الأكبر للأسف فى مدينتى، فإنها لن تكون مبررا لاختزال مدينة للسؤدد الذى يلوح به فنار سامق للسفائن العملاقة، فرحة تسابق رفرفات طير الألباتروس، الذى يشتهى الفجر وكسرات (العيش المبلول) فى المعدية، ثلاثون يوما يكمن أبطال المدينة الباسلة فى الشقوق حتى يحين نفير الوهج، أو يتحول المناضل الذى لم يقو على احتواء زفيره الحارق (عَدِيْدُ) المركبات والرتلات الحربية والدبابات الإسرائيلية وخوذات الإنجليز والفرنسيين إلى مجرد آكل نمل، يختبئ مرعودا فى حفرة مصبوغة باللون الأزرق الداكن حتى الصباح؟! الفكرة بحد ذاتها أرعدتنى، وتخصيص مدن القناة دون غيرها (رغم ما يعترى أقاليم مصر العليا والسفلى) يعمق الهوة بين أوصال الوطن الواحد، ويعزل الجزر المتلاحمة صهرا ونهرا، ويشعل فتيل مأزق يتطور عفوا بلا ناموس، ولا يحدثنى أحد عن أحمق فقد إيمانه بالله فى إحدى معتقلات النظام السابق وخرج ليعيث فى الأرض فسادا انتقاما من أشخاص بادلوه (البرش) منذ عامين، ولا حاجة للاحتجاج بآراء فرويد ونحن نتعامل مع غر لا يجيد كتابة حروف اسمه (التعليم مسئولية الحكومات لا الأمهات) إشفاقا على من يرى القتل (مهدئا) لروحه المريضة، النواح لا يرجع ميتا من البرزخ، ولابد أن ننهض بمسئولية جمعية، نحاصر بها آفات المجتمع وما أصابه ويصيبه، وفى غمرة الإغماء والموت والنواح.
ويقول، "وجدت عروسا خشبية، لم يستطع مهرجان الذبح المجانى أن يخفى جمالها المخفى وراء رأسها الصلعاء، ووجنتيها التى تفحمت وطبع على فوديها أثر "القار"، فأمسكتها لهفا، فإننى منذ أيام لم أقابل جمالا ولو كان أخرس، قلبتها قد تكون لغما موقوتا، فالموت يتشكل فى أية صورة.. الموت كالأثير، يدخلك دون استئذان، ويخرج منك ومعه آخر نبضات فؤادك.. أخذنى سؤال ساذج له وجيب: لمن هذه العروس؟!".
أما الفنان المسرحى طارق حسن، فيقول فى شهادته الثالثة "لا"، "للأسف المدينة باتت بلون الدم على مدى 3 أيام أعادونا إلى مشهد معركة 56 وقد سقط 42 قتيلا وأكثر من 1000 مصاب، الاشتباكات الدامية التى وقعت صبيحة النطق بالحكم على 21 شابا من المتهمين أطلقت الشرارة من أمام السجن.. والأهالى الغاضبة من الأحكام القاسية أشعلوا النيران فى السيارات وأمطر بعضهم السحن بوابل من رصاص الآلى والحجارة وسقط على إثره ملازم أول أحمد البلكى وأمين شرطة أيمن عبد العزيز وهاجموا أقسام بورسعيد المختلفة".
وأضاف، "نحن نرفض القرارات التى تقتل المدينة لقد خرجت بورسعيد عن بكرة أبيها تودع جثامين أبنائها من مسجد مريم تدفقت الأكفان عبر شلال من البشر حتى نادى الشرطة أطلق رجال الأمن قنابل الغاز المسيلة قنبلة سقطت على أحد الأكفان، ووقعت الجثة احتمى الأهالى بجثثهم فى مداخل العمارات المتجاورة وردوا بأعيرة نارية، ثم تم نقل العشرات من المصابين للمستشفيات وخطب الرئيس خطابا بدلا من تعزيتهم شكر رجال الشرطة ونسى بورسعيد، فخرج الأهالى ليلا فى تظاهرة حاشدة، رافضة للقرارات المخزية واليوم الثانى نفس السيناريو يتكرر ونفس الجنازات".
3 شهادات تروى مشاهد الدم فى بورسعيد.. عليوة: المتآمرون على الثورة خططوا للصدام بين المصرى والأهلى الأسطورى.. الدكتور أحمد عزت: ما يحدث ذكرنى بحكايات جدى أيام الاحتلال.. طارق حسن: الرئيس تجاهلنا
الثلاثاء، 29 يناير 2013 04:46 م