الليبرالية غير الديمقراطية وظاهرة البلاك بلوك

تناول الكاتب والمفكر الأمريكى فريد زكريا الأبعاد المختلفة للديمقراطية فى كتابه "الديمقراطية غير الليبرالية فى الوطن والخارج"، مشيراً إلى أن هناك نوعين من الديمقراطية أحدهما ليبرالى والآخر غير ليبرالى، لافتا إلى أن ثمة خلطا كبيرا فى الأذهان بينهما، وأنهما قد نشآ منفصلين عن بعضهما، عبر قرون من التاريخ الغربى حيث أتت الحرية أولا ثم تلتها الديمقراطية.

إننى فى حقيقة الأمر أختلف معاه خاصة بعد ما شهدته عدد من دول الشرق الأوسط من محولات الانتقال الديمقراطى، حيث لوحظ سلوكيات غير ديمقراطية ممن يدعون الليبرالية، لذا أفضل أن أطلق على هذه الظاهرة بـ "الليبرالية غير الديمقراطية"، والتى تعنى قيام عدد من الرموز والحركات التى تُعرف نفسها بأنها حركات وقيادات ليبرالية، إلا أنها لا تدرك معنى ما تنادى به، ولا تلتزم بقواعد الليبرالية فى سلوكياتها ومواقفها السياسية.

فمن ناحية، يدعو الليبراليون غير الديمقراطيين باحترام قواعد الشرعية وركائز الديمقراطية ونتائج الصندوق الانتخابى، لكن عندما ينتج هذا الصندوق رموزاً غير محبذة لهم، فلا يحترمونه، ويتجملون ببعض التصريحات، إلا أن سلوكياتهم السياسية ومعالجتهم للقضايا تؤكد عدم صدق نواياهم، وأن الليبرالية تعنى فى إدراكهم تقبل ما يحلوا لهم، ويأتى فى صالحهم وما غير ذلك لا يُعد ليبراليا، وأذكر هنا على سبيل المثال ما تشهده الساحة المصرية الآن فى الذكرى الثانية للثورة، حيث عملت العديد من العناصر التى تدعى الليبرالية على شحن روح الشباب الثورى لإدخاله فى صدام مباشر مع النظام الحاكم لإسقاطه لتقوم باعتلاء رأس السلطة.

إن حركة البلاك بلوك وما تتبعه من أعمال عنف وبلطجة تلوث جدوى وقيمة التظاهرات السلمية، وأن انتشارها فى المحافظات الحضرية فى مصر كالقاهرة والجيزة والإسكندرية وبورسعيد والمنيا، وتحركها فى مجموعات منظمة بزى رسمى، ناهيك عن قدرتها التمويلية وحصولها على الأسلحة التى تحملها، وقدرتها فى التواصل الإعلامى، وما تحمله من فكر كل هذه دلالات على أن وراء هذه الحركة أناساً يتنمون للفكر الغربى ممن يدخلون فى دوائر الترويج للديمقراطية الغربية، وممن لديهم مصلحة فى عدم استقرار الدولة المصرية، ويسعون إلى إسقاط النظام تحت دعوات "ديمقراطية العنف". ومن الداعى للدهشة أن تقوم العديد من القنوات باستضافة عناصر من هذه الحركة والترويج لها، وكأنها أحد الحركات القيادية الثورية؟!

أستغرب من أستاذ العلوم السياسية الذى يدعى الليبرالية والديمقراطية، وفى ذات الوقت يطالب بتشكيل حكومة إنقاذ وطنى، وطرح مبادرات ووثائق استغلالاً للاضطرابات الأمنية لتحقيق ما يدعون إليه من مطالب، وعلى رأس هذه المطالب نقل سلطة الرئيس إلى المحكمة الدستورية العليا، وكأن الرئيس لم يكن منتخباً؟! وهنا أتسأل هل هذا يُعد ليبراليا واحتراما للصندوق الانتخابى؟!

إذا استمرت هذه السلوكيات غير الليبرالية لمن يمثلون الليبرالية فى مصر، ولا أمل لهم فى الحصول على مصداقية المواطن المصرى، ولا إمكانية فى وصولهم للسلطة، وأن المراهقة السياسية التى تشهدها الساحة المصرية الآن تدل على تعطش البعض للمناصب السياسية، وأنهم لا يستطعيون الوصول إليها عبر الصندوق الانتخابى، لذا لجأوا إلى ما يسموه بـ"دمقراطة العنف"، محاولين العودة إلى يوم أن تنحى المخلوع وأمسك الجيش بزمام الأمور السياسية بأن يكرروا هذا السيناريو الآن آملين فى إسقاط هذا النظام وإدارة شئون البلاد، لكن نظرا لأنهم مستجدون على الساحة، ونظراً لندرة خبرتهم السياسية واستقطابهم لبعض الرموز غير الجيدة التى لا تعرف سوى العنف والنفاق، فضلاً عن دخول المتاجرين إلى عالم السياسة، فسيؤدى كل هذا إلى تلاشى شعبيتهم وكشف غطائهم أمام المجتمع، فهم غير مدركين لقوة من يقفون أمامه ويدفعونه إلى الرد بالعنف حتى تسقط شرعيته، ولا يعلمون أن النظام السابق لم يستطع دفعهم، لذلك نظراً لمهارتهم فى ضبط النفس.

إن الليبرالية هى المحطة الرابعة لركائز الديمقراطية، ونتيجة متراكمة تأتى بعد المدنية والعقد الاجتماعى والتنوير، وأن ما ينتجه رموز القوى السياسية لا تعكس على الإطلاق احترامه لقواعد المدنية أو العقد الاجتماعى أو حتى تمتعهم بالتنوير، وهو ما يؤكد أنها ليبرالية غير مكتملة وغير ديمقراطية.

أدعو كافة القوى السياسية إلى احترام ركائز وقواعد الديمقراطية، والعمل على فض أعمال العنف حفاظاً لأرواح الأبرياء من الوطن، وحفاظاً لدولة عاشت تنبهر أمام العالم بأنها منبع الأمن والأمان.