ذكرت فى مقالى السابق أن الولايات المتحدة - عسكرى العالم الجديد - لم تعد بحاجة لأن تذهب إلى الدول الخادمة بجيوشها لتستولى على ثرواتها كما كان يفعل أسلافها من الإنجليز والفرنسيين والأسبان والبرتغاليين من قبل، هذا إلا إذا استدعى الأمر ذلك كما فعلت مع صدام حسين.
فقد استخدمت الولايات المتحدة الدولار كأداة لتطويق رقاب الدول الخادمة، وجعلها تدور فى فلكها، وهذا ما عرضت له فى مقالى السابق على صفحات هذه الجريدة.
كانت الأداة الأخرى التى استخدمتها أمريكا فى الإبقاء على المتقدم ومتقدم والمتخلف متخلف، أنها عكفت على مدى أكثر من ستة عقود، ومعها صحبة الخير وأصحاب الأيادى البيضاء من دول أوروبا، على استنزاف الثروات البشرية للدول النامية من خلال تشجيع هجرة الكفاءات Brain Drain. فتعامل الولايات المتحدة وأشقائها الأوروبيين كأن أشبه بتعامل مصاص الدماء مع فريسته!!
ففى سبيل اجتذاب خيرة العقول من الدول المتخلفة أو الخادمة، خططت الولايات المتحدة على مدى عقود لجعل البيئة فى تلك الدول المتخلفة بيئة قميئة وطاردة للمتميزين، من خلال زرع أنظمة ديكتاتورية قامت برعايتها، ولنا فى الأنظمة البالية التى جثمت على الصدر العربى المثل والعبرة. هل يستطيع أحد أن ينكر هذه الحقيقة؟!!
ففى ظل نظام ديكتاتورى كنظام القذافى أو مبارك أو الأسد...الخ، عليك أن ألا تتوقع بقاء متميزا على تلك الأرض الفاسدة! وفى نفس الوقت قدمت الولايات المتحدة المزايا التى تلهب شهية كل باحث متميز. ببساطة كانت هناك عوامل طرد Bush Factors زرعتها الولايات المتحدة فى أرض الدول الخادمة، وعوامل جذب Pull factors وفرتها أيضا الولايات المتحدة على أرضها، لتكون المحصلة هروب للكفاءات من الدول الخادمة المنكوبة إلى أرض الأحلام والنعيم فى أمريكا وأوروبا!!
عليك ألا تنتظر من دول هربت عقولها وأفرغت من خيرة شبابها أن تحقق التقدم أوالنهضة الاقتصادية والاجتماعية. بل على العكس وفرت تلك المياه الراكدة بيئة خصبة للمزيد من التخلف الاقتصادى والاجتماعى فى الدول الخادمة، لتبقى تابعة فى أقواتها ومن ثم قراراتها للسوبر مان الأمريكى!!
دعنى عزيزى أدخل معك فى الموضوع، وأتحدث معك بلغة الأرقام، لأن الأرقام لا تكذب. هل تعلم عزيزى القارئ أن عدد المهاجرين إلى أمريكا بلغ أكثر من 38 مليون نسمة!! أى أن الوافدين إلى أمريكا حاليا يشكلون واحد من بين كل ثمانية!!
ولكن الحكاية مش حكاية عدد!! القضية لم تكن بالنسبة لأمريكا قضية كم، بقدر ما كانت قضية كيف، بمعنى أن الولايات المتحدة عكفت على تبنى سياسات انتقائية فى الهجرة إليها، بحيث لا يهاجر إليها إلا خيرة العقول وأندرها، ليبقى التفوق لأمريكا، ولتبقى الدول النامية ترزح فى أوحال التخلف والديكتاتورية!!
شتان بين السياسة التى تتبناها الولايات المتحدة وتلك السياسة التى تتبناها دول الخليج العربي. فدول الخليج العربى تحتضن ملايين الوافدين نعم، ولكن أكثر من 90% من الوافدين إلى دول الخليج هم من فئة العمالة عديمة ومحدودة المهارة!! ولهذا فهى فى اعتقادى عبء على اقتصادات هذه الدول.
وسأضرب لك مثال بالعمالة الهندية فى كل من الخليج العربى والولايات المتحدة. فالهند من أكبر دول العالم تصديراً للعمالة بوجه عام، ولكن أغلب العمالة الهندية تتجه نحو دول الخليج، حيث يشكلون ما يزيد على 35% من إجمالى العمالة الوافدة إلى تلك الدول. فقد تعدى عددهم الـ 6 ملايين هندى، ولكن أغلبهم من العاملين عديمى ومحدودى المهارة (أكثر من 70% منهم).
الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للهنود المهاجرين إليها!! هل تعلم أن الولايات المتحدة تستقطب سنوياً أكثر من 200 ألف هندى من المهندسين والفيزيائيين والمحاسبين والتقنيين!! هل تعلم أن عدد الهنود المهاجرين إلى الولايات المتحدة صعد من أقل من مليون عام 2000 إلى أكثر من 2.5 مليون هندى عام 2007؟ أى بمعدل نمو بلغ 38%؟!!
شتان بين ما يحصل عليه العاملين الهنود (6 ملايين) فى دول الخليج العربى وما يحصل الهنود (2.3) العاملين فى الولايات المتحدة. فدخل 2.3 مليون هو عشرة أضعاف دخل الـ 6 ملايين نتيجة لاختلاف مستويات المهارة والتعليم. ولكن المفارقة هى أنه رغم ارتفاع مستويات دخول الهنود العاملين فى أمريكا إلا أنهم يستثمرون أغلب دخولهم داخل الولايات المتحدة، فى حين أن جل دخول الهنود (الغلابة) العاملين فى دول الخليج يتم تحويلها إلى الهند، وهذا أمر بالغ الدلالة ويطول شرحه.
عزيزى القارئ ما عرضت له أعلاه ليس إلا مجرد مثال بسيط جداً لعملية الاستنزاف التى تبنتها الولايات المتحدة خلال العقود الغابرة. وما ذكرته بالنسبة للهند ينطبق حرفيا على مصر وباقى الدول التى لوثتها الأيادى الغربية،بتنصيب أنظمة فاسدة وملوثة، لا يحى فى ظلها إلا الفاسدين أوالمغلوبين على أمرهم!! يكفى أن أختتم بالقول بأنه وفقاً لإحصاءات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى عام 2003 فإن نحو 824 ألف عالم مصرى ومن مختلف التخصصات العلمية النادرة هاجروا إلى أمريكا (نحو 60% منهم) وأوروبا الغربية!!
الموضوع شرحه يطول، إلا أنه كما يقول مثلنا العربى، على الباغى تدور الدوائر. لذا فإن للحديث بقية إن قدر الله لنا البقاء واللقاء، ودمتم فى رعاية الله وحفظه.
• أستاذ بحقوق المنصورة .
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
eslam momtaz
رساله الي الدكتور رضا