معصوم مرزوق

سعادة النائب.. المستشار.. السفير!

السبت، 26 يناير 2013 06:56 م


يبدو أن التمثيل الدبلوماسى المصرى فى الفاتيكان سوف يواجه صعوبات جمة فى السنوات القادمة، فبعد أن تم ترشيح السيد نائب رئيس الجمهورية السابق سفيراً لدى المقر البابوى، لا أدرى كيف يمكن للفاتيكان بعد ذلك أن يقبل سفيراً مصرياً أقل من درجة نائب رئيس، وقد تصبح الفاتيكان فى النهاية مكافأة نهاية خدمة لرؤساء مصر السابقين، بحيث نرسل إليها كل رئيس تنتهى فترته الدستورية، هذا بالطبع إذا حدث تداول للسلطة.. ومن ناحية أخرى لا أعرف كيف سنفسر لدولة الفاتيكان هذا التحول القضائى تجاهها؟ بعد ترشيح نائب عام سابق، والآن قاض سابق. لا أخفيكم أن الموقف يستدعى، بقوة المفارقة وضرورات الفكاهة المصرية، تلك الألقاب التى أسبغت على الموسيقار محمد عبدالوهاب، فهو الدكتور اللواء موسيقار الأجيال، ولو مد الله فى عمره ربما نال لقب سفيرنا فى فيينا كى يغنى فيها «ليالى الأنس فى فيينا».. ورغم أننى لأول وهلة لم أجد فى قرار تعيين السيد النائب أى مخالفة لقانون السلك الدبلوماسى والقنصلى، بل ودافعت عن القرار باعتباره من صلاحيات الرئيس التى لا يجوز لأحد منازعته فيها، إلا أننى بعد قراءة متعمقة فى الموضوع، توصلت إلى أن هذا الترشيح لا يخالف القانون فقط، وإنما يخالف أيضاً العرف والتقليد المتعارف عليه، وقد يؤدى إلى التأثير سلباً على مصالح الدولة العليا التى يجب أن يتوخاها صانع القرار.
من الصحيح أن القانون يجيز للرئيس تعيين سفراء من خارج وزارة الخارجية، وهذه الإجازة بداهة لا تلزم الرئيس استخدامها، وهى استثناء على القاعدة العامة، وشأن كل استثناء لا يجوز التوسع فيه أو القياس عليه.. ومن الثابت فى الممارسة الدولية أن الدول التى تلجأ إلى هذا الأسلوب تطبقه فى أضيق الحدود ولا يتم تعيين سفراء فى هذه الحالة إلا فى بعثات هامشية لا تمثل وزناً استراتيجياً أو مصالح حيوية للدولة.. وقد كان ذلك هو المطبق فى مصر مع استثناءات نادرة كان لها ظروفها السياسية مثل تعيين الفريق سعد الشاذلى سفيراً فى لندن.

يستخلص من ذلك أنه ولو أن القانون قد أجاز للرئيس ذلك الاستثناء، فإن الممارسة التى صارت عرفاً مستقراً قد قيدت هذه الإجازة، بحيث لا يكون للرئيس أن يختار أى دولة للسفير المعين وفقاً للهوى، وإنما بناءً على دراسة دقيقة تقدمها له وزارة الخارجية، تحدد فيها الأماكن التى يمكن شغلها باختيار الرئيس، ومن ناحية أخرى فإنه مع تنوع العلاقات الدولية وتعقيداتها، يتعين أن يتوافر للسفير الذى يقود بعثة دبلوماسية خبرة تراكمية من العمل الدبلوماسى تتراوح ما بين 20 إلى 25 عاماً، وهو ما لا يمكن تصوره فى شخص من خارج إطار المؤسسة الدبلوماسية.. ومن المؤسف أن العمل الدبلوماسى يتعرض منذ فترة لعملية تنميط ذهنى سلبى، سواء فى شكل انتقادات لا تستند إلى حقائق، أو برسم صور وهمية عن دبلوماسى يقضى حياته مرفهاً يتنقل بين حفلات الاستقبال ويستهلك ميزانية الدولة بلا طائل أو فائدة، ولعلنا نذكر ما قاله الرئيس السابق مبارك عن اليوم الذى استدعاه فيه السادات كى يخطره بتعيينه نائباً للرئيس، فقد ظن أن سبب استدعائه هو أنه سيتم تعيينه سفيراً «فى بلد حلوة، ويصبح واحداً من الإكسلانسات»، وقد كرر الرئيس السابق هذه الحكاية عدة مرات بشكل يشير إلى أنه ربما كان يفضل لو أصبح سفيراً بدلاً من رئيس للجمهورية، وربما لو تم ذلك لاتخذ تاريخ مصر مساراً آخر.. بل إن أحد رؤساء الوزراء السابقين درج على انتهاز أى فرصة للهجوم على الدبلوماسيين «الذين يقبضون بالدولار» على حد قوله، وكأنه كان من الواجب أن يتسلموا مرتباتهم بالجنيه المصرى كى ينفقوا منه فى الخارج، وفى الغالب يكون هذا الهجوم مرتبطاً بتجربة شخصية للمهاجم، مثل أن يكون فى شبابه قد حاول الالتحاق بالخارجية ولكنه فشل فى اجتياز اختباراتها الصعبة التى يعرف الجميع نزاهتها ودقتها، أو لشعور شخصى بالنقص تجاه كفاءات الدبلوماسيين المصريين التى شهد لها العالم كله، بل إن أغلب المنظمات الدولية والإقليمية تتخاطف العديد من الدبلوماسيين المصريين، ولعل أبرز مثال هو الدبلوماسى الشاب محمد البرادعى الذى ترقى فى وكالة الطاقة الذرية حتى تولى منصب مديرها، ولولا أن شباب الدبلوماسيين المصريين يتميزون بالانتماء الشديد والارتباط العاطفى ببلادهم لوجدنا أن المئات منهم يعملون الآن فى هذه المنظمات الدولية، بما يفقد الخارجية المصرية تلك الذخيرة الفعالة.

هذا التنميط الذهنى السلبى عن الدبلوماسى المصرى يعطى صورة خاطئة تماماً عن ذلك الدبلوماسى الذى يحيا حياته كلها مغتربا، تعانى معه أسرته الانتقال المستمر من بلد إلى بلد، ينتقلون فيها من مناخ إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، من بلاد تنتشر فيها الحروب والأمراض إلى بلاد لا يتوفر فيها التعليم المناسب لأولاده أو العلاج المطلوب.. وعليه أن يتحمل كل هذه الظروف ويكيف نفسه وأسرته عليها مع مواصلة المهام المكلف بها، وقد لا يعرف الكثيرون أن ظروف عمل الدبلوماسى تحرمه أغلب الوقت من الاجتماع بأسرته نظراً لارتباطاته التى لا تتوقف، وحتى عندما يكون فى منزله فإنه يكون مشغولاً إما بإعداد دراسة لموقف أو متابعة أحداث أو تنفيذ مهام كلفته به وزارته.. لقد حافظت مؤسسة الخارجية المصرية العريقة على شموخها عبر كل الظروف الصعبة التى مرت بها مصر، ورغم كل الإخفاقات الداخلية، فقد تمكنت تلك الكوكبة المتميزة من مدرسة الدبلوماسية المصرية من الدفاع بشراسة عن مصالح مصر، وتمكنوا بمهنية عالية أن يمخروا عباب المجتمع الدولى بكل تعقيداته، كى تظل مصر رغم خفوت أضوائها فى الداخل متألقة فى المؤتمرات الدولية، ولسوف يكشف التاريخ عندما تكتب سطور تلك السنوات عن الدور البارز الذى لعبه الدبلوماسى المصرى فى أركان الأرض الأربعة. وختاما..لاشك عندى أن الدبلوماسيين فى وزارة الخارجية المصرية يرحبون بانضمام زميل جديد لهم حتى ولو كان بدرجة نائب رئيس سابق، ومن المؤكد أن أعضاء سفارتنا فى الفاتيكان سوف يقدمون كل الدعم والمساعدة لرئيس البعثة الجديد، ولكن يبقى أنه أخذ موقعاً من دبلوماسى عاش يعمل أكثر من ثلاثين عاماً كى ينال هذا المنصب، وأنه سيكون على السيد النائب المستشار السفير أن يبذل جهداً خارقاً كى يتعلم واجبات هذا المنصب الجديد الرفيع، وإلا أصبحت مهنة السفير مهنة من لا مهنة له.. ولله الامر من قبل ومن بعد.


أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة