عندما رفع حزب الحرية والعدالة، وجماعة الإخوان المسلمين شعار قوتنا فى وحدتنا فى جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية كانوا محقين، فعندما تتوحد ألوان الطيف السياسى الواحد على هدف واحد يتحقق الفوز وهو ما قد كان، أما عندما تتعدد ألوان الطيف وتختلف الأهداف المرحلية أو الرؤى والمعالجات وطرق الوصول لغاية واحدة هى نهضة مصر، فإن كتلة التصويت تتفتت وتتوزع على هذه اﻷطياف المتعددة بنسب تمثيلها الطبيعى فى المجتمع وكذلك مع قدرة كل طيف سياسى على الحشد والدعاية والإقناع والتأثير فى الرأى العام.
فى الانتخابات البرلمانية المقبلة لن يرفع تيار ما شعار (قوتنا فى وحدتنا) كما كان الحال فى انتخابات مجلسى الشعب والشورى الماضيين، ستتعدد الرؤى بتعدد اﻷطياف، ولذا سيكون الشعار الحقيقى واﻷكثر مصداقية والذى يجب أن يرفعه ويتمسك به تيار الوسط المصرى هو (قوتنا فى فكرتنا).
فأحزاب مصر كثيرة متعددة، وعندما يحاول أحد كوادرها التعريف والدعوة لحزبه أو طيفه السياسى فى الشارع يجابهه السؤال اﻷولى شديد المنطقية والوضوح: ما هو المختلف عندكم لتقدموه لنا؟
يصاغ السؤال بعدة صياغات لكن يبقى المضمون واحد، والشعب لديه القدرة الشديدة على الفرز والتمحيص والتصنيف، الشعب يصنف الأحزاب بسرعة إلى خلفيات ذهنية عنده، وممارسات وشعارات سابقة التجهيز لدى الأطياف السياسية المختلفة، فتجد الناس يصنفون اﻷحزاب ويضعونها فى أبواب أو يسكنونها فى أدراج ورفوف، فهذا رف أحزاب اﻹسلام السياسى ذو المرجعية السلفية، وهذا إخوان مسلمين يعرفونه بسماته مهما تبدل اسم الحزب، وهذا حزب ليبرالى وأحيانا يصنفونه – الشعب وليس أنا – فى خانة الحزب العلمانآ، وذاك حزب ناصرى قومى أو اشتراكى، والبعض يطلق على هذا الرف اختصارا (رف الأحزاب اليسارية )..
ويظل هناك (رف أو درج) فارغ دائما.. فالشارع المصرى على وعيه وثقافته يتساءل ببساطة خاصة عندما يرى وجوه شباب يعدهم فى رواد المساجد، ويعرف فى قولهم وخلفياتهم تربية إسلامية واضحة لا تخطئها العين:
(عاملين أحزاب ليه؟ أنتم بتوع اﻹسلام السياسى، ما تروحوا الإخوان)..
أو يقول ﻵخرين يسمع فى حديثهم سيماء الليبرالية والحداثة (عاملين أحزاب ليه، انضموا ﻷحزاب ليبرالية ذائعة الصيت منها أحزاب عريقة، ومنها أحزاب جديدة أيضا).
ثم ينظر للشباب الثورى ذى الخطاب الحماسى المنفعل، فيحسبه على التيار اليسارى
الشعب محق فى تقسيمه (لرفوف وأدراج) إدراكاته ووعيه السياسى.. لكن الحقيقة التى أفرزتها الثورة فى ميدان التحرير وميادين مصر بعد أن تلاقى الشباب على أرض الواقع وعرفوا معنى كلمة التعاون الحقيقى مع اﻵخر وفهموا سر مصطلح التكامل واختلاف التنوع لا التضاد، وإمكانية التعايش الحقيقى معا، وأن الموت فى الميادين كان من أجل مصر الأم، ولم يكن من أجل لافتات حزبية وأيديولوجية.. أدرك الشباب أن حجم ما يجمعنا أكبر وأعمق بكثير من حجم ما يفرقنا، وأدرك شيئا أهم مع حرية العمل السياسى بعد الثورة، أدرك أنه من الممكن أن يحتفظ بأيديولوجيته ولو تحرر من القيادة القديمة العتيقة وأنشأ حزبا جديدا، فصاحب التربية اﻹسلامية سيبقى من رواد المسجد ولن يتوقف عن صلاته، أو يخفف من عبادته وشدة تعلقه بالله، أو يتغير سلوكه الشخصى العام عندما يترك فصيله السياسى ليعمل عملا سياسيا من خلال كيان مختلف أو وليد، والثورى كذلك أدرك أن الفعل الثورى والفكر الثورى ليس حكرا على تيار بعينه، وقد شارك مع آخرين هذا الفكر وهذا الفعل فى الميادين، اﻷحزاب (الرفوف واﻷدراج) التقليدية ظلت مسكونة بملفاتها.. لكن هناك طيفا جديدا تشكل من رحم العمل والفكر والفعل والمداد الثورى.. هذا الطيف يتميز بالوسطية والاعتدال، وبقدرته على التعاون والتحالف والانفتاح، وأهم ما يميزه على اﻹطلاق عدم قابليته للاستقطاب الحاد بمعنى سقوط مصطلحات التخوين والتكفير الوطنى والسياسى من قاموسه السياسى..
أضرب مثلا برواد المساجد أنموذجا.. وأقصد بهم على الإجمال الشباب الذين آمنوا بمفهوم شمولية اﻹسلام فالعقيدة والعبادة فى نفوسهم لا تنفصل عن المعاملات والممارسات الحياتية اليومية ولا الحلول السياسية، فهم يؤمنون بالحل اﻹسلامى لمشاكل العصر، يؤمنون به مع قدرة واضحة على التعايش والاقتباس من آليات الحضارات المختلفة، فهم يرون كل ما عدا المبادئ الثابتة، وسائل ومتغيرات يصلح الاستعانة بها فى بناء حضارة إنسانية بغير غضاضة.. هذا النموذج الفكرى وجد نفسه بعد الثورة يستطيع أن يمارس السياسة ويعمل لها دون الاضطرار إلى أن يتخندق مع جماعات اﻹسلام السياسى التقليدية، لقد بدأ يطبق أخيرا فكرة عبقرية أطلقها فضيلة الشيخ يوسف القرضاوى سابقا تقول (إن شمولية اﻹسلام لا تعنى بالضرورة شمولية التنظيمات العاملة للإسلام).. نشأت أحزاب متعددة للمدرسة السلفية، دون أن يشعر أصحابها بالحرج أو الغضاضة أو الخصومة.. لقد آمنوا أن تعدد الرؤى حق مكفول للجميع، وأحيانا تتفق الرؤى ويختلف الفاعلون على طريقة اﻹدارة، فينشئون حزبا جديدا بإدارة مختلفة.
ونشأت أحزاب أقرب إلى أطروحات اﻹخوان أطلق عليها البعض(إخوان بشرطة).. ولم يدرك من أطلق هذه المقولة أن فرق هذه (الشرطة) جد خطير.. فالحزب الذى نشأ على خلفية فكرية إخوانية (بفرض وجوده ونقائه دون تهجين بمختلف ألوان الطيف الثورى الحداثى فى مصر).. هو نفسه الحزب الذى تخلص من إرث فكرة التنظيم الواحد، وقبل بمبدأ التعددية فى الطرح اﻹسلامى.. إنها (شرطة) عظيمة اﻷثر إذن ولا غضاضة فيها..
ما حدث فى تيار التربية والخلفية اﻹسلامية حدث ولاشك بدرجة أو بأخرى فى مختلف التيارات اﻷخرى التى تزامل شبابها فى الفعل الثورى فى الميادين..
لكن الشعب الذى تعود على الوضوح ومحاولة التمييز بين الأحزاب السياسية بتصنيفها إلى ألوان، والذى آمن بمقولة الفنان الراحل نظيم شعرواى فى مسرحية (شاهد ما شفش حاجة): اللون الرمادى أنا ما بأحبوش.. يا أبيض يا أسود..
الشعب يريد أن يصنف الناس ليستريح فى اختياراته.. ولذا يظل سؤاله حائرا لكل كوادر ومنظرى اﻷحزاب الوطنية الوسطية الناشئة.. وهنا أصبح أهم ما يجب على هذه اﻷحزاب أن تحدد لها لونا واضحا يستطيع الشعب أن يدركه بوضوح، وأن يصنفه و( يُسَتّفه) فى (رفوفه وأدراجه) اﻹدراكية السياسية..
وهنا نعود إلى العنوان (قوتنا فى فكرتنا).. وضوح فكرتنا الوسطية المعتدلة القائمة على الطرح الفكرى الواضح الصريح المستقيم الذى يفهمه الناس ويقتنع به الناس.. وفكرتنا بوضوح هى إمكانية التعايش دون إقصاء أو تهميش أو تخوين أو تكفير.. فكرتنا ببساطة أننا نعبر جميعا عن المنطقة الوطنية التى لا خلاف عليها وهى أن مصر أولا، ورفع العبء عن كاهل أهلها ومواطنيها أولا، ونهضتها أولا، وقبل كل حزب أو تيار سياسى وفكرى.
سأعود فأكرر أن فكرتنا اﻷساسية أننا لا نستقطب ولا نساعد على الاستقطاب، آمنا من خلال الميادين أنه يمكن أن نعمل معا ونتعاون معا ونتشارك معا ونتكامل معا من أجل مشاريع نهضة حقيقية للوطن وبالوطن.. هذه الفكرة التى هى سر قوتنا يجب أن ننشغل بها وبالتعريف لها والدعاية لها بين الناس، والإجابة على سؤالهم الدائم: من أنتم وماذا تريدون؟..
فالانشغال بفكرتنا أهم كثيرا جدا من الانشغال بتحالفات انتخابية طارئة مع القوى التقليدية التى تتصارع بالشكل التقليدى (اﻷبيض واﻷسود )،
وأقولها ناصحا مخلصا لكل ألوان الطيف السياسى الجديد فى مصر:
إياكم أن تصبحوا ورقة فى ملف يسكن فى (رف أو درج) قديم فى إدراك ووعى المواطن المصرى.. اجعلوا المواطن يفتح لكم ملفا جديدا يضعه فى (درج جديد) لونه أبيض ليس من النقاء ( فلا نتهم أحدا فى نقاء سريرته) وإنما لونه أبيض من وسطيته فى علم مصر بين اﻷحمر واﻷسود.
