قبل 25 يناير عام 2011 بنحو يومين، كان هناك لقاء تليفزيونى شهير للواء حبيب العادلى وزير داخلية نظام مبارك، أجراه معه الإعلامى مفيد فوزى، ولما سأله مفيد عما إذا كان المسؤولون فى مصر قد تأثروا بما حدث فى تونس، فأجاب العادلى بغطرسة واضحة: «ولا شعرة واحدة اهتزت فى رأس أى مسؤول».
كانت الثورة التونسية وقتئذ قد اختتمت تجلياتها بفرار الرئيس التونسى زين العابدين بن على إلى خارج بلاده، مما طرح سؤالا على ألسنة المصريين: «هل يمكن أن يحدث فى مصر مثلما حدث فى تونس؟».
العدوى التونسية كانت تعنى قيام ثورة فى مصر، والثورة فى مصر كانت تعنى سقوط نظام مبارك، لكن هل كان أحد يتخيل أن يتم هذا السقوط، ويدخل رموز هذا النظام خلف القضبان؟، هل كانت هذه الرموز نفسها تتخيل أنها ستخرج من أبهة القصور إلى «برش» السجون؟.
دعك من أحاديث السياسة ووضع السيناريوهات، والكلام عن النبوءات التى طرحها البعض قبل 25 يناير، عن أن هناك ثورة قادمة، دعك من أحاديث الأرقام التى كان رجال نظام مبارك يطرحونها للتدليل على أن هناك استقرارا ونموا، فى مقابل أرقام تطرحها المعارضة كدليل على الفساد الذى سيؤدى حتما إلى ثورة قادمة، دعك من كل هذا، وتوقف أمام مشهد سياسى وإنسانى وهو، هل كان رجال مبارك يتوقعون أنهم سيدخلون السجون؟، ولأن الإجابة المنطقية هى، أنهم لم يفكروا فى هذا الأمر للحظة واحدة، ليس ثقة فيما يفعلونه، وإنما لأنه لا توجد سلطة مستبدة ولا يوجد نظام ديكتاتورى يفكر بهذه الطريقة، فمثل هذه النظم تتعامل على اعتبار أنها باقية.. باقية إلى ما لا نهاية، ولأنها تفكر بهذا المنطق تبقى حياة رجالها خلف القضبان موضع اهتمام ودراسة خاصة فى مراحلها الأولى، تحتاج هذه الحياة إلى دراسات نفسية، عن تلك اللحظات التى يبدأ فيها من كان مسؤولا حياة نقيضة تماما عن تلك التى كان يعيشها فى أوج سلطانه.
ربما ومع الأزمات اليومية التى يعيش فيها المصريون، يصبح تناول قصص حياة رجال مبارك فى السجون، نوعا من التسالى، لكنها فى الوقت نفسه تعطى عبرة لمن يريد أن يتعظ، ومن هنا تأتى أهمية القراءة العميقة لما تنشره جريدة الحياة من حلقات يكتبها الكاتب الصحفى محمد صلاح بعنوان: «مبارك خلف الأسوار»، والتى تأتى من خلال حوار تم مع مساعد رئيس قطاع السجون المصرى السابق اللواء محمد حمدون، والذى وضعه القدر، لأن يكون هو المشرف على إيواء رجال نظام مبارك فى سجن طرة، ولنتخيل مثلا، كيف كانت مشاعر هذا الرجل وهو يرى حبات عقد النظام تتساقط حبة بعد أخرى، ويقوم هو بوضعهم فى السجن؟، كيف كانت مشاعره بعد أن كان قبلها بأيام مسؤولا يأتمر بأمر وزير داخليته حبيب العادلى، ومسؤولا أمام رئيس الوزراء أحمد نظيف، ومسؤولا أمام طاقم الحكومة الذين دخلوا السجن؟، ستتوقف أمام كلمته التى قال فيها: «امتلأت الساحة بأكثر من 38 مسجونا، كانوا بالأمس حكاما بل أسيادا، واليوم أصبحوا مقيدى الحرية، محكومين باحثين عن معاملة طيبة، أو كلمة رقيقة من سجان أو حارس». سيأتيك أول سؤال، عن كيف كان استقبال اللواء حبيب العادلى فى السجن الذى كان حتى يوم خروجه من الخدمة تحت قيادته؟، وستكون الإجابة، أنه المسؤول الذى دخل مباشرة إلى إدارة السجن، وكأنه يعرف كل مكان فيه، لكنك فى نفس الوقت ستعرف من خلال تصرفاته الأولى، أنه لا يصدق أنه فى هذا المكان، لكنه سريعا ما يعرف أن حاضره لن يكون كماضيه أبدا، ولهذا بدأ فى استدراك الأمر، فتحدث مع ابنه شريف عبر تليفونه المحمول قائلاً: «أنا فى مهمة طويلة، وعايزك تبقى راجل» ثم يذهب إلى غرفة السجن، ويا للعجب فقد كانت غرفة هشام طلعت مصطفى الذى احتج فى البداية أن تؤول إلى السجين الجديد، لكنه تنازل عنها طواعية، رغم أحقيته بها طبقا للوائح السجون، أما زكريا عزمى الذى ترك تعاليه وغطرسته مع نظامه، فظل شاردا وكأنه لا يصدق، لكنه سلم بمصيره وذهب إلى زنزانته، أما أنس الفقى الذى كان يتباهى بقوته قبل الثورة، ومع لحظاتها الأولى قال: «لم نطلق أكثر من صندوق ذخيرة واحد»، فقد كان هو الآخر شاردا غير مصدق.
سبحان من عز وذل، ستقولها وأنت تقرأ مثلا قصصا من نوع صدمة أحمد عز عندما رأى الزنزانة التى سينزل فيها، وقدم عرضا بأنه على استعداد للقيام بتبليطها بالسيراميك، لكن طلبه قوبل بالرفض طبقا للوائح، وستقولها حين تعرف لحظة وقوف أحمد نظيف رئيس الوزراء أمام المأمور، لإنهاء إجراءات دخوله السجن، وظل هكذا واقفا حتى قال له المأمور: «اتفضل إجلس»، فجلس، ولما تسلم زنزانته فوجئ بالسرير أصغر من جسمه، ولما طلب تغييره حتى يتمكن من النوم، قوبل طلبه بالرفض، فاضطر إلى النوم يوميا فى وضع القرفصاء.
أما عن علاء وجمال مبارك، فتوقف أمام هذه الحكاية التى يرويها اللواء محمد حمدون : «حين كنت مارا أمام العنبر، شاهدت أحد السجناء يحمل صينية عليها أكواب الشاى، فناداه أنس الفقى: هات اتنين شاى لجمال بيه، وعلاء بيه، كان المشهد ذا مغزى، فمنظر كوب الشاى والملعقة التى تستخدم لوضع السكر فى حال سيئة، لكن هكذا صار الوضع الذى كان على الكل أن يتكيف معه، كذلك كانت أكواب الشاى هى أقصى مايمكن أن يقدمه الفقى لعلاء وجمال، احتفاء بهما فى أول يوم لهما فى السجن».
سنوات أخرى زادت من شيخوخة صفوت الشريف، ويوسف والى، وعاطف عبيد، بعد أن كان الشريف وعبيد يتحايلان وهما فى السلطة على الشيخوخة بصبغ الشعر، وأكثر ما تلاحظه من سرد الحكايات، تلك المسحة الدينية المفاجئة التى طفت على حياتهم، فمحمد سليمان يردد دعاء: «رب إنى مظلوم، وتعلم أنت وحدك بظلمى وستظهر الحقيقة يوما ما، وأنا أعلم أن الخطوات مكتوبة والأنفس معدودة»، أما علاء مبارك فيزيد من ركعات الصلاة، ويبقى عند الجميع صلاة الجمعة كطقس يبدو منه أنها بالنسبة لهم فترة انتقال من حال إلى حال، ومن ملك إلى ملك.
ليس شرطا أن يكون كل من يبقى خلف القضبان ظالما وفاسدا، والشاهد على ذلك أسامة الشيخ رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون الذى يحكى اللواء محمد حمدون أن الذين سبقوه إلى السجن لم يصدقوا أن أسامة الشيخ ضمن المتهمين بالفساد، خاصة أنه حقق ربحا للتليفزيون بلغ 164 مليون جنيه.
