تناقلت بعض الصحف فى الأيام القليلة الماضية خبرًا مفاده أن محافظة القاهرة، اقترحت إلغاء محطة مترو الأنفاق (حلوان) على أن تكون محطة عين حلوان هى نهاية الخط، ثم يتم إنشاء موقف "سرفيس" لنقل المواطنين إلى حلوان؛ وذلك للتخلص من الباعة الجائلين وإرجاع المظهر الحضارى للمنطقة.
لم يفكر العباقرة أصحاب الفكر الرشيد الذين يودون إعادة المظهر الحضارى لمدينة حلوان أن الخطة التى يقدمونها مهما احتوت على تفاصيل واعتصمت بحجج منطقية من وجهة نظرهم أنها لا تمت بصلة من قريب أو بعيد بالحضارة؛ لأنها تبرهن على تخلف فكرى وحضارى، كما أنها تحمل فى طياتها أنانية مفرطة وتعسفا ضد المواطن المسكين سواء من الباعة الجائلين أو من ركاب المترو الذين سيدفعون وحدهم الثمن ماديًا ونفسيًا ومعنويًا. كما أنها تبرهن على العمق الشديد لثقافة الشكل على حساب المضمون، وتؤكد على البعد التام عن مفهوم التخطيط الاستراتيجى الذى يعد من أبجديات العمل الإدارى، هذا فضلا عن أنها تمثل بوضوح أحد مظاهر إهدار أموال الدولة التى تستدين؛ لتعوض النزيف المستمر الناتج عن الفساد الإدارى الذى تكلس فى جميع مؤسسات الدولة ومفاصلها على مر العقود الماضية.
إن هذه الهرتلة التى تسميها محافظة القاهرة خطة تعبر يقينًا عن المأساة الحقيقية التى تعانى منها مصر قبل وبعد الثورة بكل أسف، إن مفهوم الفساد يتجاوز بكثير الجانب المالى الذى يعد أيسر أنواع الفساد – إن جاز التعبير– مقارنة بغيره، ففضلا عن أنه يعاقب عليه القانون، فإنه يسهل اكتشافه، أما الفساد الإدارى المبنى على التخلف الفكرى وترويض المناصب لأقزام الفكر والإدارة؛ فإنه مفسدة كبرى يصعب التخلص منها أو العقاب عليها؛ لأنها مع مرور الزمن تتحول إلى ثقافة مجتمعية، وتصبح شيئًا مألوفًا لا يحرك للذى يراه ساكنًا؛ فالمسئول إن لم يكن لديه رؤية إدارية وفكر رشيد، فإنه حتمًا سيجتهد فى إكمال منظومته الإدارية بأشخاص يقلونه فكرًا، ويحاول أن يقصى كل من يخالفه الرأى، ويصبح أمام المتميز أحد أمرين إما أن يتغابى ويجارى الفساد أو سيناله- بلا شك- مصير الإقصاء الذى نال الكثير غيره بكل تأكيد فى قائمة سوداء لا تخلو منها أى مؤسسة فى الدولة.
والمخزى أن مثل هذا الهراء الذى يسمى خططًا يحدث كل دقيقة على أرض مصر، وللأسف الشديد انصرفت الثورة إلى الصراع على الباطل المتغير وتركت التنافس من أجل الحق الذى من أجله قامت؛ مما جعل معظم البسطاء يتململون من مجرد ذكر لفظ "الثورة " ويطرحون سؤالا منطقيًا: أين ثمار الثورة؟ وما الذى تغير على أرض الواقع بعدها؟ الإجابة- من وجهة نظرهم- لا شىء بكل تأكيد؛ لأن الذى يعنى للنخبة كل شىء ويتصارعون عليه، لا يعنى للبسطاء أى شىء.
إن الثورة الحقيقية كانت ينبغى أن تبدأ- على الأقل بالتوازى مع العمل السياسى- بتحليل الأنظمة الإدارية الفاسدة ليس بمحاكمة وسجن الأفراد التى يمثلونها فحسب، لكن بمحاكمة الأفكار والأنظمة الفاسدة بأفكار جديدة مبدعة، وهذا يتطلب البحث عن مسئولين أكفاء لديهم رؤية فى الإدارة والتطوير، وما أكثرهم فى مصر، لكن ما أقصاهم عن المناصب أيضًا؛ لأن اختيار من يشغلون المناصب مازال – بكل أسف– ليس ببعيد عن الطريقة نفسها قبل الثورة، وإن حسنت النية! فلو كان هناك تغيير حقيقى فى اختيار المسئولين بمعيار الكفاءة فقط لشعر المواطن البسيط بأن الثورة حققت نجاحًا، ولكان أول من يقف وراءها ويدافع عنها، وعمن يمثلونها، ولاختفى كثير من المصطلحات التى تتردد فى وسائل الإعلام منذ قيام الثورة، مثل الفلول والطرف الثالث.....إلخ
إن أكثر ما يغص النفس أن ترى الكفاءات المصرية يستعان بها فى كل بقاع أرض الله، لتبدع وتبتكر وتعمر، وفى المقابل توسد الإدارة فى مؤسسات الدولة المصرية لمسئولين مفلسين لا يعرف معظمهم للمسئولية معنى، ولا يسلك إليها سبيلا.
د. محمود عبد الحافظ خلف الله يكتب: أتدرون من المفلس؟
الأحد، 13 يناير 2013 09:09 م