ألقى الرئيس "محمد مرسى" فى أواخر أغسطس الفائت خطابًا مدويًا، وذلك فى الجلسة الافتتاحية للقمة السادسة عشرة لدول حركة "عدم الانحياز" فى العاصمة الإيرانية "طهران"؛ إذ كان خطابه بمثابة نقلة جديرة بالتحليل والقراءة فى السياسة الخارجية المصرية، خاصة أنها جاءت على يد أول رئيس مدنى منتخب بطريق مباشر من الشعب بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م.
وقد أثار الخطاب بمفرداته ومضامينه عددًا من المواقف المتباينة داخليًّا وخارجيًّا، فهناك من أيد وأشاد بالخطاب جملة وتفصيلاً باعتباره اللبنة الأولى فى بناء عصر جديد للريادة "المصرية" فى المنطقة. وهناك من عارض الخطاب لأنه - حسب قراءته - يُرسخ لسياسة القطيعة مع الدولة الإيرانية دون أسانيد ملموسة، بل ويراه امتدادًا لسياسات سلفه المخلوع "مبارك" فى توتر العلاقات مع كيانات رئيسية فى المنطقة، على رأسها إيران، رغم أن زيارة الرئيس "مرسى" إلى طهران فى حد ذاتها قد تعبر - من وجهة نظرى - عن عودة تدريجية للعلاقات معها.
والجدير بالملاحظة هنا أن خطاب "مرسى" جاء خلافًا لتوقعات الكثيرين؛ فلم يكن أحد يتوقع أن يبارى "مرسى" النظام الإيرانى فى عقر داره، لاسيما أنه تخرج فى جماعة الإخوان المسلمين، والتى تُعرف بمواقفها غير العدائية مع المذهب الشيعى ونظام الملالى فى "طهران"، وهو ما جعل البعض يعتقد أن الرئيس "مرسى" لن يتطرق فى خطابه إلى أمور مذهبية خلافية من شأنها إفساد العلاقة أكثر مما هى عليه، فيما بدأ خطابه بالصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته وصحبه، وذكر بالاسم سادتنا "أبا بكر وعمرَ وعثمانَ وعليًّا".
ورغم خروج الخطاب بذكر أسماء الخلفاء الراشدين - رضى الله عنهم جميعًا - عن المسار التقليدى العام للدبلوماسية المصرية؛ فإنه قد رسخ فى الوقت ذاته لمبدأ المشروطية والخطوط الحمراء فى العلاقات مع النظام الإيرانى بتأكيده على الهوية السُّنِّية لأكبر بلد عربى فى المنطقة، ومن ثم فإن أرادت "طهران" إقامة علاقات دبلوماسية مع "مصر" فعليها أن تضع فى الحسبان سُنِّية مذهبها.
بيد أن خروج الرئيس على تقاليد جماعته بهذا الشكل يقود إلى أن "مرسى" إما أنه أخذ فى الاستقلال التدريجى عن جماعة الإخوان المسلمين، وذلك بتبنيه مواقف ورؤى مغايرة لمواقفها السياسية، وهو أمر محمود بالتأكيد، وإما أن هذه الجماعة صاحبة المشروع الإسلامى السُّنِّى الوسطى غيرت هى الأخرى من مواقفها تجاه إيران، لأنها أضحت بعد تربعها على عرش أكبر دولة عربية فى المنطقة "مصر" فى حالة منافسة مع المشروع الإسلامى الإيرانى، ومن ثم أصبحت العلاقة أقرب للنِّدية منها للمهادنة، علمًا بأن جماعة الإخوان المسلمين لم تجد فى ظل النظام السابق حليفًا لها يدعمها ويدعم مشروع المقاومة لديها سوى النظام الإيرانى (حماس نموذجًا).
وما بين قرار "مرسى" بحضور القمة - التى عادةً لم يكن يحضرها زعماء البلدان بأنفسهم، وكان الحضور وحده سببًا فى توجه آراء المتابعين والمهتمين نحو توقعات كبيرة بتقارب إيرانى مصرى مرتقب على يد الرئيس "مرسى" - وبين خطابه الذى جاء محملاً بالانتقادات المبطنة للنظام الإيرانى سواء فى مذهبه الدينى أو مذهبه السياسى، بمساندته نظام "بشار الأسد" فى سوريا؛ يبدو سعى الرئيس "مرسى" الواضح إلى تحرير واستقلالية سياسته الخارجية عن التبعية للغرب، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ كان قرار حضوره مخالفًا للإرادة الأمريكية وحلفائها، وبإرادة مصرية حرة، فى حين جاء خطابه متماشيًا مع توجهات الغرب، وهنا يمكن القول إن حالة ذاتية القرار الخارجى التى دشنها الرئيس المصرى الجديد تؤكد أن الخارجية المصرية أخذت تنفض عن نفسها غبار التبعية للولايات المتحدة وحلفائها.
هذا مع الوضع فى الحسبان أن الرئيس لم يناقش مسألة عودة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وطهران أثناء اجتماعاته الثنائية مع القادة والزعماء الإيرانيين خلال الزيارة.
ويبدو أن "مرسى" بخطابه أعاد - أو بالأحرى أحيا - فى السياسة الخارجية المصرية مبادئها القديمة، حيث تقديم الدعم والمساندة والوقوف بجوار الأشقاء العرب، إما لنيل حريتهم من احتلال غاشم وإما لنيلها من حاكم مستبد.
وإلى جانب ما سبق أكسب خطاب الرئيس "مرسى" السياسة الخارجية المصرية صفة الجراءة فى الانتقاد والوصف، فقد انتقد سياسات مجلس الأمن فى التعامل مع الأزمات الدولية، لاسيما القضية السورية، وذلك باستخدام حق الفيتو الذى شل يد المجلس فى اتخاذ حلول ناجعة للأزمة، كما وصف بجراءة النظام السورى بأنه نظام ظالم قمعى فقد شرعيته، علاوة على ذلك انتقاده ووصفه تعامل الولايات المتحدة الأمريكية الجائر مع كوبا فيما يتعلق بالحصارات "الاقتصادى والتجارى والمالى"، فى حين لم يتطرق إلى الحصار المفروض من الولايات المتحدة والدول الغربية على الدولة الإيرانية.
وأخيرًا يبقى أن خطاب الرئيس "محمد مرسى" فى قمة عدم الانحياز بالعاصمة الإيرانية "طهران" - بمضامينه ومفرداته الواردة - أعاد إلى الخارجية المصرية ما افتقدته طوال الأعوام الثلاثين الماضية، وأكسب كذلك الرئيس المنتخب مزيدًا من الشعبيتين الداخلية والخارجية، مما يُصعب الأمر أكثر على منافسى جماعة الإخوان المسلمين وحزبها "الحرية والعدالة" فى الانتخابات البرلمانية المقبلة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
هشام اسماعيل
كلام رائع
عدد الردود 0
بواسطة:
هشام اسماعيل
كلام رائع
عدد الردود 0
بواسطة:
Bassem
تحليل سياسي راااااااااائع
no comment :)))))