لم تدمع عيناه أثناء مراسم التشييع.. ولا حين وقف فى الصف الأول يصلى عليها صلاة الجنازة.. ولا حين شاهدها وهم يهيلون التراب فوق جسدها النحيل الذى أبلاه المرض.. لم يعلم لماذا.. ولكنَّ عينيه لم تدمعا قط. وعند أذان العشاء.. عندما أسدلت الستائر السوداء على الكون.. واشتعلت محركات السيارات متأهبة للعودة للديار.. وجدهم يدفعونه دفعًا إلى إحداها بجوار أولاده الذين أجهشوا هم وزوجاتهم بالبكاء.. انتبه أحدهم إلى جمود ملامح أبيه وسكونه منذ بلغه الخبر، فمسح دموعه فى عجلة وسأله متيقنًا متصنعًا الهدوء عمَّا به.. فاكتفى بهزَّةٍ بسيطة من رأسه لا تعنى أى شىء.. إلا أنها كانت كفيلة بإبعاد أنظارهم عنه.. حين هلَّت أنوار القاهرة ولاحت معالمها طلب منهم أن يترجل من السيارة ويحاول أن يمشى حتى المنزل.. تعلل بأنه بحاجة إلى الاختلاء إلى نفسه قليلاً.. بعد إلحاح طويل واقتراحات عدة بأن يصحبه أحدهم - قوبلت كلها بالرفض - وافقوا على مضض.. أخذ يجول فى شوارع القاهرة وحيدًا.. الواحدة صباحًا.. القاهرة.. تلك المدينة التى شهدت ميلاده مرتين.. شهدت ميلاده الفعلى ومعظم طفولته وتكونت بها ملامح شخصيته الأولية.. وشهدت ميلاده الثانى معها.. وتحقيق أمانيهما معًا.. القاهرة.. المدينة التى أعجزته عن وصفها أبد الدهر.. بشكل ما كان يشعر بأنها تستمد منه هيئتها وشكلها.. ومزاجها.. متى كان فرحًا.. يراها وقد ازدحمت وسهر الناس ليلاً وأبواق السيارات لا تكف عن الضجيج.. والزغاريد تجوب أنحاءها ليلاً.. ومتى كان حزينًا كان يراها وقد خلت إلا ممَّن هم على شاكلته من المهمومين والمجاذيب.. تلفحهم بنسمة من صقيع الشتاء، تجعل أبدانهم ترتعد.. وترتعد قبلها أرواحهم فى شجن وحنين إلى شىء ما لا يعرفونه.
فى هذا اليوم شعر بأن القاهرة حقًّا حزينة لأجله.. شعر بأنها تواسيه بشكل ما.. مواساتها هذه جعلته يشعر بالغضب.. هو لا يحتاج إلى المواساة.. إنها هناك بالبيت.. تنتظره مثلما فعلت طوال 40 عامًا.. إنها تجلس الآن على الأريكة السوداء الموجودة فى غرفة المعيشة منتظرة سماع صوت ولوج مفتاحه الباب حتى تستيقظ من غفوتها لتعدَّ له العشاء.
كادت أن تدهمه سيارة مسرعة يقودها فتى عابث وهو غارق فى لجة أفكاره.. ظل يتذكر صورتها.. كان على يقين أنها تنتظره.. ولكن.. ماذا حقًّا لو عاد للمنزل فلم يجدها؟ أصوات متضاربة تقحم نفسها إقحامًا داخل أذنه.. بكاء طفل رضيع يختلط مع صوت مذياع قديم يخرج منه صوت أم كلثوم تشدو بشىء ما، وصوت شجار يأتى من أعلى البناية بين رجل وامرأته يتشاجران معتقدين أنْ لا أحد يسمع حرفًا.. لا يعلم هل هذه الأصوات موجودة حقًّا أم هى صدى لشىء ما يعلق بذاكرته المشوشة.. ضباب.. ضباب.. ضباب.
بالأمس كانا يتشاجران كهذين، وكانا فى الثلاثين من عمريهما.. فكيف استيقظ على الـ 70.. كهلاً وحيدًا يجر قدميه جرًّا فى الطرقات؟ يا الله!!.. كم بين هذا وذاك؟ ماذا بين هذا وذاك؟ لقد كان معها دائمًا.. فى كل مراحل حياتها كان معها.. فى شبابها كان معها.. فى كهولتها كان معها.. وفى مرضها وضعفها وشيبتها كان معها.. لم تحتج إليه أبدًا إلا وشعرت بذراعيه تطوقانها قبل أن تسأل: أين هو؟ فلماذا يتركها الآن؟ هل يساندها فى كل شىء إلا نهايتها؟ هل يساندها فى كل موقف إلا أشدها احتياجًا إليه؟ وإذا لم تحتج له ولألفته وهى وحدها قابعة فى الظلام محاطة بالطين والتراب من كل جانب؛ فمتى تحتاج إليهما إذًا؟.. إنها بحاجة إليه.. لم يَدرِ كمْ من الوقت مرَّ، ولا كيف مرَّ.. حتى وجد نفسه فى عربة متوجهة إلى بلدتها.. إلى حيث ترقد.. إلى حيث ينتمى.. إلى حيث سيجلس ويجلس.. لا يعلم إلى متى.. ولكنه لن يرحل إلا بعد أن يوفيها حقَّها.. وتطمئن روحُها.. وتألف هذه الأريكة الجديدة التى ستظل دائمًا تنتظره عليها بشوق.
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
حسن رجب
رائعة
أرجو إتاحة الايميل الخاص بالأستاذ حازم حسن
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري وأفتخر
جميلة والله
التعليق فوق
عدد الردود 0
بواسطة:
reda
رائعة جداااااااً
رائعة جداااااااً
عدد الردود 0
بواسطة:
AMIR
بجد تسلم يا استاذ
NO COMMENT
عدد الردود 0
بواسطة:
7oda
روعة
جميلة جدااااااااااا
عدد الردود 0
بواسطة:
ابو منعم الشطوي
أيحســــــــــــــب الإنســــــن أن يترك ســـــــدى.؟؟!!!!!!