ماذا ارتكبت الأنظمة السابقة من جرائم ضد مصر وشعبها غير السلب والنهب وتحويل ما فى خزينة البلاد لجيوبهم الخاصة؟
تعالوا نتكلم بصراحة، ونقفْ أمام أنفسنا كوقوفنا أمام الطبيب الذى نشكو له متاعبنا ونصف له أوجاعنا ونشير له إلى مكان الوجع والألم، ثم نذهبْ لنقفَ مكان الطبيب ونرتدىَ معطفه لنصف لأنفسنا الدواء وندلَّ القائمين على أمورنا على العلاج المناسب للمرض الذى استشرى فى أجسادنا وعقولنا وأحوالنا نتيجة الإهمال عن جهل أحيانًا والمتعمد أحيانًا أخرى كثيرة.
لا تقل لى: إننا بحال جيدة، وإننا أفضل من غيرنا، فتخدر بهذا الكلام المعسول إرادتنا مرة أخرى. ولا تقل لى: ما هذا التشاؤم المبالغ فيه؟ فصدقنى.. هذه هى حالنا التى نعانيها ولا نُفيق منها، ولا نريد أن نعترف بإصابتنا بالتشاؤم، فعدم الاعتراف به جزء من المرض العضال، وغفوتنا وهروبنا من المواجهة هما أيضًا جزء من المرض، ذلك لأننا تعاطينا لقرن من الزمان جرعات كبيرة من مخدر أعطانا إحساسًا كاذبًا بأننا - المصريين - الأقوى والأفهم والأذكى والأوعى والأكثر مفهومية وفهلوة وثقافة وعلمًا ودينًا وفنًّا وإبداعًا، فاعتلينا منصات تكريم مزيفة، صنعناها بأنفسنا لأنفسنا، وحصدنا جوائز وهمية أطلقنا عليها نحن أسماءً وألقابًا، ودفعنا نحن ثمنها، ثم وزعناها علينا، وصفقنا بحرارة لأنفسنا وسط فلاشات المصورين وتهليل المهللين من محللينا ونقادنا الوهميين، لأنفسنا المهزومة فى داخلها والعاجزة عن أن تقف فوق منصات عالمية لتحرز جائزة واحدة متعارفًا عليها دوليًّا، كل هذا حدث ونحن مبهورون بإنجازاتنا الهوائية الفارغة من المضمون، فحصل الهاجع والمائع والقائم والنائم على جوائز إبداع وجودة فائقة ورقمٍ قياسى لإنتاجه لا شىء!
فعشنا قرنًا من الزمان فى شتى صنوف التزييف: الفكرى والعقلى والإبداعى.
وظننا أن الجوائز التى أهديناها أنفسنا سوف تغلق عيون العالم وتعميه عن فشلنا وعجزنا وتأخرنا، وتوهمه بأن مصر هى أم الحضارات والثقافات والإبداعات، ونسينا أن الكذب والوهم لا يسريان على عالم أصبحت الدنيا فيه تراقب بضغطة زر، فتظهر على الشاشات جميع الحقائق كاملة شاملة وافية.
اتركنى أتكلمْ براحتى لأفرغ ما بداخلى من همٍّ وغمٍّ وقرفٍ أصابتنى،
أولاً منَّا كمصريين جلسنا قرنًا من الزمان لنشاهد العالم من حولنا ونحن نفغر أفواهنا دهشة وإعجابًا به، إذا صنعَ اخترعَ، وإذا غزا الفضاء أعجز، وإذا مارس الرياضة أتقن، وإذا أنتج فنًّا أبدع، وإذا عزف موسيقى أطرب، وثانيًا من فاسدين تفننوا فى إفساد أجيال بأكملها، وأمرضوها بالجهل والتعتيم، فأصيبت بالعقد النفسية والأمراض السلوكية، ونجحوا فى إنتاج مزاج شعبى سطحى يقدم الفهلوة على الأمانة والانتماء.
فهل من سبب لكى يفسد نظام الدولة شعبه ويصيبه فى مقتل على هذا النحو البشع وقد أعطاه الشعب ثقته؟
فإذا كانت سرقة ونهب أموال المصريين سببهما الطمع والجشع؛ فما سبب سرقة عقولهم وتضييع مستقبلهم وآمالهم وتعمد تخلفهم عن دول العالم؟
نحن لا شك فى حال يرثى لها، ليس فقط اقتصاديًّا، فربما كانت هذه هى أهون المصائب، نعم أهونها بالقياس مع مصائب أخرى عديدة أصابتنا فى أعماقنا وفى مراكز الحس والشعور والتنفس والإدراك ومراكز الضمير فينا إصابات بالغة خطيرة، بعدما كانت مصر تساعد أقطار العرب وأفريقيا اقتصاديًّا وعلميًّا وثقافيًّا وفنيًّا ورياضيًّا؛ اختفت كل هذه المساعدات تدريجيًّا حتى صارت مصر فى حاجة للمساعدة.
فالتربية والتعليم أصبحا اسمًا ولافتة، وحدث تجريف للعقول، وأغلقت تنمية المواهب، وألغى الاحتفال بعيد العلم السنوى، وأصبح خريج الجامعة لا يقدر على كتابة موضوع تعبير، وأهمل تأهيل المعلم وتكريمه، فاهتم القائمون على التدريس بتحصيل أجر الدروس الخصوصية أكثر من تحصيل العلم، وأصبح العلم تجارة رابحة وغنيمة للفاسدين والانتهازيين، وانخفض مستوى النضوج الفكرى لدى الكثيرين، وظهر هذا واضحًا بعد الثورة حين اهتم كلٌّ بجنى ثمرة الثورة لصالحه، وتدهورت لغة الخطاب بين الناس فانحطت العبارات وتاهت قيم التعامل والسلوك المتحضر، وزادت البلطجة بأنواعها السلوكية والخطابية والسياسية، وأظهرت الثورة عورات المجتمع وعرَّتْهُ لتبدو للمسئولين سوءاته.
حتى المؤسسات الدينية أصبحت أداة استبداد فى أيدى الأنظمة، فأصبح الدين قشورًا وسطحيات خالية من معانى التراحم والتعاطف، وتُلخص فى شكليات خادعة عديمة الفائدة، غائبة الجوهر.
وكما تم تجريف العقول جُرفت الأرض الخصبة وشاع تبوير مساحات الزراعة لبيعها كمبانٍ أسمنتية غالية الثمن.
وأصبحت صناعة مصر إما محتكرة تصب فى جيب النظام - كالحديد والأسمنت - وإما صناعات "بسكوت" الأطفال والسيراميك.
واختفت مهارة العامل المصرى المؤهل والمدرب، وانقرض الحرفيون عندما زاول غير المؤهل كل الحرف فى فوضى مهنية عارمة، بعدما فقدت مراكز التدريب المهنى وظيفتها وجديتها.
وبعدما كانت مصر أولى دول المسرح العربى؛ اختفت الأعمال الفنية المبدعة، وذلك لتقييد الحريات وفرض قيود من النظام على حرية الإبداع الهادف.
الفساد الذى ساد مصر وصار كالهواء يتنشقه الجميع، ويسرى فى العروق كالدماء، يحتاج إلى علاج وتعامل خاص مع كل طوائف المجتمع، فمازالت آثار الفساد فى الهواء والدماء السارية فى الشرايين والعروق.
والتكاتف والتوحد للخلاص منه من جذوره واقتلاعه هما الحل، ومساعدة الجميع للجميع كذلك، فكلنا أصابنا الداء ولا نشعر به، ومازال فى مصر من كانوا يقتاتون من الفساد ويتجرعون فوائده وميزاته الخاصة بهم، وهؤلاء يجب على المصريين انتزاعهم من المجتمع لكى يتحقق العلاج ويصح بدن الأمة منه – الداء - ومن سمومه.
ما ضاع فى نهب وسلب من أموال مصر نسعى لاسترداد بعضه، فهل نسعى لاسترداد بعض ما سرق من عقولنا وحضارتنا ووعينا وإدراكنا؟
ومن يعوض المصريين عن سنين التخلف والتعتيم والتجهيل التى قضوها فى قهر سياسى وقهر إعلامى وقهر دينى وقهر فنى، سبقته خلالها شعوب العالم نحو التقدم والازدهار والرخاء؟
وهل اكتفى أهل الفساد بما جنوه من أرباح على حساب هذا الشعب المسكين المطحون؟
الذين اعتادوا السكر نَخْبَ الفساد لن يتنازلوا عنه بسهولة، فمازال فى كُئوس الفساد جرعات غير قليلة.
مصر
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مجدى سليمان الحلو
عندك حق
مقال وافى يا أستاذ على وكله ابداع الى الامام دايما
عدد الردود 0
بواسطة:
حمادة أبو كبير
المعاناة مستمرة
عدد الردود 0
بواسطة:
سامية مختار
أوافقك الرأى
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
جزاكم الله خيرا
جزاكم الله خيرا مقال جيد جداااا افادكم الله