سادت لحظة صمت طويلة بينهما، لحظة تبادلت فيها المعانى الأدوار.. لحظة تباينت فيها الأفكار واختلفت الآراء.. لحظة تَوازَى صمتُها مع سُكون الغرفة المُضاءة بنورٍ خافت.. لحظة عبَّر فيها القلب عمَّا بداخله دون أن يحتاج للسان.. لحظة استمر هدوءها إلى أن بدَّد البيَّان لوعة الكلام.
كلمة "أحبك" لها وقع أثير فى النفوس، كلمة يجب السكوت بعدها، لأن الصمت يعبر عن أفضل ما يمكن أن يُقال، وكل ما قد يُقال لن يكون أفضل من حقيقة ما تعبر عنه النظرات.
نَطَق بهذه الكلمة دون أن يدرى المشاعر الحقيقية سبيلُ للتقدم وسط هذا الزحام من المادية المُحبطة وحالة التشوه القيمى السائدة بين الأفراد، أوضح لها بعينيه أن كل علاقة إنسانية أيًا كانت تنطوى على حب حتى لو كانت علاقة قائمة على المصلحة، فهناك أفراد يعشقون تحقيق المنفعة الذاتية لأنفسهم ويتعرفون على آخرين انطلاقا من تحقيق تلك المصلحة المُحببة لديهم.
تساءلت بعينيها دون أن تنطق: وهل الحب من الممكن أن يُدنس بتلك المفاهيم المتطفلة عليه؟
أجابها مُقلبا نظراته فى فضاء عينيها الرائقتين: هنا نعود إلى أصل مفهوم الحب ولماذا أصبح يتم اعتباره كلمة تحمل مضمون إيجابى فقط، ألن تجدى هناك تناقضًا فى بعض الأحيان عند الحديث عن الحب.
جميعنا يريد أن يُحب لكننا ندورك جيدًا أن للحب عذابات كثيرة ومتكررة، فالحب قد ينطوى على فراق ولوعة وألم ودموع وحسرات، وبعد ذلك نتساءل باستنكار لماذا يُدنس الحب بالماديات الجدلية، وكأن الأصل ألا يُدنس، هل الفراق والألم والدموع ليست من الحب؟ هل الحب فقط إحساس بالنشوة لوجود من يهتم بك ويرعاك ويخاف عليك، لا هذا غير صحيح، فنحن من أصَّلنا للمفهوم بهذا الشكل وحاولنا أن نتناسى ما يحمله من آلام.
"لماذا تلك النظرة السوداوية للأمور؟ لماذا ترى فقط الجانب المظلم من الحب؟" تساءلت وهى متشبثة بنظرات عينيه التى تُديبها تحرقًا وشوقًا، وأضافت: ألا تعى أن القمر مظلم فى حد ذاته لكن نحن الذين نراه مضيئًا.
"هذا بالظبط ما أتحدث عنه.. نحن من نخلق طبيعة الأمور وليست هى من تفرض نفسها علينا.. نحن، فى تعاملنا مع مفاهيم الحياة، كالذى كان يصنع صنمًا ويظل يتعبد ويتقرب له، ظنًا منه أنه "إله" سيمنحه ويمنعه، ما أقوله تحديدًا هو أننا يجب أن تكون نظرتنا أعمق للأمور ولا يجب أن نهتم فقط بالحوّاف المحيطة بها لأنها تكون ناعمة وحادة.
تَشبَثَت بيديه وكأنها تتعلق بآخر أمل بقى لها فى الحياة، سابحة فى أعماق قلبه وغارقة فى بحر مشاعره الفياضة التى وإن كانت تحمل بعض السواد، إلا أنها كانت وستظل دائمًا رائقة بيضاء، توسلت إليه بعينيها ألا يتركها تواجه الحياة بمفردها، أشارت إليه أن هناك أمورا تحدث لنا لا نفهمها ولا نستطيع تفسيرها، فمن الممكن أن يكون بكاء شخص ما فى مكان ما مرتبط بابتسامة آخر فى مكان آخر.. من الممكن أن يحدث التقاء بين روحين لأن الله يريد أن يؤلف بين قلبيهما دون معرفة مسبقة.. أرادت أن تُثنيه عن الرحيل.
لم يجد بُدا من الرحيل فكأنما كُتب عليه الرحيل دومًا.. وكأنه رحَّالة يدخل قلوب ولا يستقر بها.. بحّار يدور بالموانئ ولا يعرف أيهما قد يحمله ويطيقه.. كتب على نفسه الاختلاء متيقنًا من أن ما يفعله هو الصواب.
الصوَّاب نسبى ومحيّر، خصوصًا بين الأحبّة. يتفق الجميع على ضرورة وجوده لكن لا أحد يقدر على مجابهته. وما يراه أحدهما صوابًا، يراه الآخر أكبر تجلى للخطأ.
قبّل يديها بدموعٍ مستقرة داخل عينيه الواسعتين، ثم وضعها على خدِّه. وصوّب نظراته مباشرة إلى عينيها ليرى حبها للمرة الأخيرة. ليرى الطُهر الإنسانى عندما يتجسد فى كيان مادى. ليرى النقاء الروحى الذى خلقه الله فى بعض عباده ليكونوا فى الحياة نموذجًا.
صَمَت قليلا بعد صمته الطويل، ثم قال مُودعًا: "سنلتقى يومًا فى عالم آخر لأن عالمنا يستكثر علينا أن نبقى سويًا".
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عصفور النيل
فمن الممكن أن يكون بكاء شخص ما فى مكان ما مرتبط بابتسامة آخر فى مكان آخر
مقال جميل جدا بالتوفيق استاذ باسم
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود أبو طاهر
دلائل الحب (5)
عدد الردود 0
بواسطة:
ahmed
جميل جدااااااااااااااااااااااا