تتعدد خطوط التماس وتتقاطع فى منطقة الخليج العربى والجزيرة العربية، فهناك نقاط تماس على خطوط مذهبية وعرقية وسياسية واقتصادية داخلية وخارجية، والمدهش أن تلك الحقيقة كانت موجودة فى «سفر التكوين» لهذه المنطقة منذ بداية عصر الدول القومية وتحت ظل فترة الهيمنة الاستعمارية، وظل هذا الوجود متوارياً تحت تراكم الكثبان الرملية الناعمة التى حملتها رياح مختلفة أتى أغلبها من اتجاه الشمال الشرقى، وكان التمويه مغالى فيه حتى لا يبدو أنه يختفى تحت هذه الرمال الناعمة سوى البترول.
إن البترول كان الأداة الاقتصادية التى تم بها تأميم الصراع السياسى والاجتماعى داخل مجتمعات بدوية رعوية، بمعنى أنه إذا كانت فكرة التأميم بشكل عام هى تغيير صفة المالك وتتم فى الغالب بانتزاع ملكية خاصة وتحويلها إلى ملكية عامة، فإن التأميم هنا -باستخدام البترول- قام بانتزاع ملكية عامة «الصراع السياسى والاجتماعى» وحولها إلى ملكية خاصة لعائلة أو مجموعة من العائلات، حيث إن الوفرة التى حققتها هذه السلعة الاستراتيجية قد أدت إلى الحقائق التالية:
> توفر إمكانات الإرغام لدى العائلة التى نجحت لأسباب تاريخية فى امتلاك سدة الحكم.
> توفر حدا معقولا من الاكتفاء المادى لدى المجتمعات المعنية، بما يجعل محاولة الخروج على الوضع القائم بمثابة مغامرة غير مأمونة العواقب تهدد الامتيازات القائمة.
> حرص القوى الاستعمارية على الإبقاء على الوضع القائم، مهما كان رأى تلك القوى فى المثالب السياسية والاجتماعية والثقافية التى تطفح على جسد تلك المنطقة، وذلك للحفاظ على استمرار طفح آخر من هذه الأرض يمثل شريان الحياة للغرب والعالم.
> وهذا «التأميم» يمثل لغمًا يتناثر بكثافة فى أنحاء تلك المنطقة، تحت نفس الرمال الناعمة، وقد وصل إلى أعلى درجة من درجات الحساسية، ويمكن أن ينفجر فى لحظة تصادم، أو وحده لمجرد ازدياد تلك الحساسية إلى نقطة الانفجار، وواقع الأمر أن تلك الألغام المدفونة بدأت فى الاقتراب من سطح الأرض نتيجة لعوامل كثيرة من التعرية.
بانتهاء الحرب الباردة، والحروب الصغيرة الكبيرة التقليدية، كان على المؤسسات الصناعية العسكرية أن تبحث لها عن منافذ جديدة للمحافظة على أرباحها الطائلة من مبيعات السلاح، ولم يكن ذلك ممكناً إلا عن طريق خلق العفريت ثم التخويف منه، ففى البداية كانت الشيوعية والحكومات التقدمية فى المنطقة هى العفريت، ثم وبعد أن تهاوى الرجل العجوز فى موسكو، وسادت عقيدة الغرب فى كل الأنحاء «باستثناءات قليلة»، كان لابد من صنع العفريت الجديد، فهو الإسلام تارة، وهو الإرهاب تارة أخرى، وهو مخاطر البيئة أحياناً، ولكنه فى الخليج تم تركيزه فى دولتين تحديداً: إيران والعراق، واستمرت بناء على ذلك علاقة السلاح - السياسة لتقدم صورة شبه هزلية لطفل هزيل يحمل كميات هائلة من الأسلحة قد لا يستخدمها أبداً إلا لإيذاء نفسه!!، أو -وهذا هو الأخطر- لاشتباكات لا طائل ورائها فى نزاعات حدودية أو لمجرد التنفيس عن احتقان داخلى.
سقط العراق الذى كان يروج له باعتباره الدرع الشرقية للأمة العربية، والذى خاض حرباً عبثية مع إيران تحت شعارات مختلفة كان أحدها هو: «حماية أمن الخليج».. سقط العراق واستمرت إيران شبحاً يؤرق ساكنى قصور الخليج، بل تسللت بمهارة من شقوق النظام العربى من خلال بوابات دمشق وبيروت وغزة، وأصبحت تلك البوابات أوراقا سياسية استراتيجية فى يد طهران تلاعب بها الغرب تارة، وتضغط بها على الإقليم تارة أخرى.
ومع تزايد احتمالات ضربة عسكرية إسرائيلية لمنشآت إيران النووية، فمن المحقق أن منطقة الخليج سوف تكون أحد مسارح العمليات المشتعلة، خاصة مع التواجد العسكرى الأمريكى فى أكثر من دولة خليجية، وهو ما يعتبره العسكريون الإيرانيون بمثابة «رهائن» وأهداف عسكرية مشروعة حال تعرضها لأى هجوم.
ومن ناحية أخرى، وبغض النظر عن احتمالات اشتعال نيران حرب ضروس بين إيران وأعدائها، فإن نيرانا أخرى تسرى فى هشيم الأوضاع السياسية والاجتماعية فى المنطقة تبدو أكثر خطورة وأشد تأثيراً، وأعنى نيران الحرب الطائفية التى ينفخ فيها بعض الأغبياء بمساعدة كل من له مصلحة فى تفكيك منطقة الشرق الأوسط، وخاصة إسرائيل.. إن الطائفية البشعة تطل كرأس «هيدرا» على ضفاف الخليج وبحر العرب، من اليمن إلى الكويت، بينما تشهد العراق تجسيدها الدموى، ويبدو أن سوريا فى الطريق إلى ذلك قريباً.
وسواء شاءت مصر أم أبت، فإنها بالتاريخ والجغرافيا لن تكون بعيدة عن ألسنة هذا اللهب، كما يفرض عليها الموقع والدور أن تتحرك سواء فى إطار دبلوماسية وقائية مثل سيارة الإطفاء لحصار النيران قبل أن تنتشر فى الإقليم كله، أو فى محاولة قد تبدو مستحيلة لبناء نظام أمنى عربى قبل فوات الأوان، وهى فى ذلك تحتاج إلى استعداد حقيقى وإرادة سياسية لدى العواصم الخليجية دون تحفظ أو مماطلات وتمحكات.. وربما تنجح مصر الثورة فى قيادة تحرك دبلوماسى مؤثر عاجل لوضع إطار النظام الأمنى العربى سواء من خلال جامعة الدول العربية أو بتنسيق مباشر مع مجلس التعاون الخليجى.
ولكن من المؤكد أن الرياح التى تهب على منطقة الخليج لم تعد مقتصرة على تلك الآتية من الشمال الشرقى، فهناك رياح أخرى تتجمع فى باطن تلك المنطقة نتيجة لكل العوامل السابقة، وربما لم يعد البترول وحده كافياً لاستمرار نظام تأميم الصراع السياسى والاجتماعى، خاصة فى ظل العولمة وعقار الانفتاح الاقتصادى وأقراص ثورة المعلومات التى دخلت كل بيت مع أقراص الحواسب الآلية.. ويصبح «الربيع الخليجى» موسماً يقترب بشدة وإلى درجة قد لا يتصورها أحد.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد عبد الله
كارثة عالمية
عدد الردود 0
بواسطة:
نجوى المغربى
رائع
عدد الردود 0
بواسطة:
خالد الشيخ
بين الحرية والفوضى ..المواطن العربي متأرجحاً
عدد الردود 0
بواسطة:
معصوم مرزوق
تحية وتعقيب
عدد الردود 0
بواسطة:
خالد الشيخ
الشكر نابع من القلب إلى القلب وليس من لسان إلى عقل