أسامة الرحيمى

دأب القناديل!

الأربعاء، 26 سبتمبر 2012 08:10 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
- لا يعوز الناس الضى إلّا فى العتمة، فإذا اشتدت حاجتهم للرؤية ينظرون مباشرة صوب القناديل!

- وبسبب تقاطر سُحب الجهل على الأفق، وامتلاء الصدور بالريبة، والرؤوس بالهواجس، لما يجرى فى مصر الآن، أستعين مُجددا بخمسة قناديل كثيرا ما استهديت بها، اثنان منها لهما قصب السبق، وثلاثة ما زلنا نستضىء بهمّتهم!.

- أسبقهم "يحيى حقى" العظيم الذى ألهمنا كيف نتحايل على الجهل بالعلم فى "قنديل أم هاشم"، وعلمنا بكتاباته فضائل عميمة منها التأمل والتواضع، ومثله أبهجنا صوت "محمد قنديل" بأغانيه "فلاّحة بلدنا"، و"عالدوّار" و"سحب رمشه وردّ الباب" وغيرها من روائعه، فطيّب وجداننا بالغزل الشعبى المدهش، وطيَّبَهُ بندى الغيطان، وفرحة الفلاحين بتحولهم من أجراء فى وسايا الإقطاع إلى مُلاّك لأرض الإصلاح الزراعى بعد ثورة يوليو!

- وثالثهم الصنديد "عبد الحليم قنديل" الذى تحدّى مبارك فى عز توحشه بلا تهيُّب، وأطلق أولى ومضات ثورة يناير من "جريدة العربى الناصرية"، فى مقالات كانت مثالا للشجاعة وسط خوف عام مُخجل، ووضوح رؤية وسط حلكة مُعتمة، وبلُغة سياسية منحوتة، التصق فيها المعنى بالمبنى، وظاهر الحرف بصميم القصد، فبانَ لنا جلياً حجم دوره النضالى.

- ثم الرصين الماكر "حمدى قنديل" ببرنامجه "رئيس التحرير"، الذى بدا وقتها كالأيتام على موائد اللئام، وسط حالة تخريب نشطة لأُسس الإعلام المصرى، فكان شمّة الهواء النظيفة الوحيدة فى مستنقع النفاق، وكلمة حق وسط أنقاض تلفزيون "صفوت الشريف"، وأدهشنا بقراءته الموضوعية لواقع فاسد، ومهارته المهنية فى تناول أعقد الشئون السياسية بلماحية ومواربة واضحة، وتسلل بدهاء إلى وجدان الناس تحت أعين الرقباء، فخاب ظن من تصوروا أنه جزء من ديكورات ديمقراطيتهم الزائفة ولم يحتملوه إلى النهاية، لأنه هو الذى استخدمهم بيقظة لتوعية الناس، وسبّب لهم آلاما فادحة بكشف "ملاعيبهم" فى تضليل الشعب، فأوقفوه وتعقبوه إلى دبى بأذرعهم الطويلة القذرة، ليقصفوا "قلمه الرصاص"، لكنه كان قد أتقن اللُعبة، وظل صامدا دؤوبا لا يغيب عن أى همّ عام ويراه جزءا من مسؤليته الشخصية.

- وخامسهم "وائل قنديل" فى عموده اليومى بجريدة الشروق، الذى تجلى إخلاصه لثورة يناير من لحظاتها الأولى، مستخدما أعذب لغة أدبية فى معالجة أكثر القضايا السياسية إلحّاحا والتباسا، وبعكس ما كان متوقعا من تلك الجريدة لارتباط أصحابها التاريخى بـ"هانم النظام السابق" ظل صوته وفيا للثورة إلى وقتنا هذا كأنقى ما يكون الوفاء.

- استقويت بهؤلاء "الخمسة قناديل" قبل الثورة وبعدها، واستعنت بمددهم على ظُلمة "عقود مبارك الثلاثة "، بنفقها الممتد الخانق، الذى أوهم أكثرية الشعب لكثرة التواءاته أن ليس ثمة بصيص واحد فى نهايته، وأن مآل كل الأشياء إلى انهيار حتمي، فسارع من سارع إلى اهتبال الفرص، واستخدام آليات الفساد والنفاق فى كل الاتجاهات، وانقبضت قلوب القِلّة القابضة على الجمر، وشاعت بينهم الحسرة والخذلان، وبات الانزواء سبيل الضعاف منهم لتفادى المخاطر.

- الصلة بين الخمسة عندى هى "اسم القنديل" بتعدد إيحاءاته الإيجابية! وهى عند "حقى" العمق والبساطة، فى حياته وقصصه ومقالاته، حيث تعاطى مع مجتمعه بمحبة صافية، وتواصل مع العوام من دون استعلاء، وأنزل قيم الثقافة الرفيعة من عليائها إلى حِجر البسطاء، وقاوم المفاهيم الشعبية الخاطئة المختلطة بأوهام دينية بالحيلة وليس الصدام، كما فعل مع الطبيب إسماعيل بطل "قنديل أم هاشم"، حيث جعله فى النهاية يتخلى عن صرامته العلمية، ويتظاهر بقبول الجهل ليقنع البسطاء بتناول الدواء، ليضمن انتصار العلم، وهو ما فعله" حمدى قنديل فى "رئيس التحرير" بصيغة ليست بعيدة، لكن "عسس صفوت" كانوا يمتلكون أنوفا تتهيّج من الروائح الطيبة، وينفرون منها بطبعهم، فكان لا بد من استبعاده بعدما عجزوا عن توظيفه أو السيطرة عليه.

- وهذا يتفق فى نتائجه- وإن اختلف المدخل- مع هدف "عبد الحليم قنديل" فى مقالاته التى استنبتت الأمل فى نفوسنا بعد بواره، وناوش فيها مبارك الظالم وحيزبونه القاسية بكلام صريح بلا وجل، نيابة عن سائر مظاليم مصر، وحَرَّضهم ضد مشروع التوريث من دون خوف، فى وقت كانت الصحافة أحد معولين استخدمهما زبانية النهب العام فى تدمير منظومات القيم، وفى التمهيد بهمّة ولهفة لمجىء جمال مبارك، والامتثال لقسوة سوزان ثابت، التى جهلت قيمة مصر الهائلة، واستخفت بشعبها العظيم، واستهانت بكل التحذيرات، ولم يقف أمام هذا الزحف المخيف سوى قنديل بفتيل واحد شحيح الضوء، لكنه كان مبهرا فى عتمة النفق، اسمه "عبد الحليم" لا سند له فى الحياة غير حبه لوطنه، وإيمانه بقيمه، وشجاعة ملأت عليه قلبه، وقلم جسور.

- وفى عز سطوة "صفوت الشريف" وانهيار "تلفزيون الدولة" قدم لنا "حمدى قنديل" تفسيرات موحية لحقيقة العلاقات بين الأشياء، وبذكاء محسوب بيّن أن النظام السبب الرئيسى فى مصائب الناس، فى وقت كان "تلفزيون الريادة" يقوم بأقذر دور فى تشويه وقلب المفاهيم الصحيحة، بعدما اضطلع منذ افتتاحه 1960 بتربية وجدان العرب عامة، لكن قنديلا واع وحيد حاول منع انهيار السدّ بجسده النحيل، والعجيب أن كلماته لم تذهب أدراج السيل، بل بقيت عالقة فى الأذهان، كذُبالة بدت هزيلة وقتها، لكنها هزّت سواد الليل.

- سطع وميض كلمات "عبد الحليم قنديل" وبات عموده الأسبوعى فى العربى مقصدا لطُلاب الحق، وانتقلت عدوى شجاعته إلى آخرين، لا يقلون حماسة عنه، فتجمعوا وكانت "كفاية" التى بدت شعلتها واهنة فى البداية، لكنها كانت مختلفة وباهرة، سرعان ما اشتد وهجها وبات حاميا على وجه النظام، فأطلق سفهاء "أمانة السياسات" ضباعهم النهمة، وأذنابهم فى "الصحف المخطوفة من الشعب" على رموز الحركة الوطنية الوليدة، لكنهم عجزوا عن إطفاء الجُذوة، فاستشرت الحماسة الوطنية، واتخذت صيغا أخرى مثل 6 إبريل، وبالرغم من ضراوة الملاحقات الأمنية فى شوارع القاهرة المزدحمة، توسّع نطاق مظاهرات السلالم مكانيا ونوعيا، فوصلت الإضرابات إلى عمال الغزل فى المحلة، وكانت بدورها مَظْلَمة كبرى منسية، فارتجت أركان النظام، واستيقظ ضمير مصر الجمعى وتمطى بعمق ليستعيد حيويته، وانتشرت الوقفات الاحتجاجية لموظفى وعمال أغلب المؤسسات والشركات، وتعالت أصوات المناكيد من سائر حنايا الوطن، حتى تحولت لطنين هائل فى أذن مبارك العنيد الظالم وجهاز أمنه الوحشى، فعجزت السلطة سائبة المفاصل بفعل الفساد عن تكميم الأفواه، أو إيقاف المدّ العظيم الذى اعتلى ذُراه فى الخامس والعشرين من يناير 2011، يوم الفصل العظيم.

- ولمّا كان إطلاق الوميض الأول من مهام القناديل، وإشاعة الضوء فى محيطها، فقد كنا محظوظين بقناديل باهرة، جدّدت المخاطر دأبها، فكما ضمنت كتابات "يحى حقي" خلود أفكاره بحيويتها وعذوبتها، سيبقى صوت "محمد قنديل" صدَّاحا يستعصى على ذائقتنا إهماله، ولم يتراجع "عبد الحليم قنديل" حين خطفه ضباع النظام الساقط لترويعه، وجردوه من ملابسه فى الصحراء، فازداد إصرارا وشراسة ضد القهر السياسى والفساد، وذاع صيته أكثر، وعلا صوته، وباتت لغته أبلغ وأنصع مثل آرائه، ولا أنسى أبدا الحماس الذى هزّنى وهو يلقى كلمته فى نقابة الصحفيين عقب نجاته من عملية الخطف، ومن يومها باتت صراحته مصدر رعب لخصومه، ومحط إعجاب حُسّاده.
- ولا أرانى مبالغا إذا قلت إننا كنا بحاجة لمثل كتابة "وائل قنديل" منذ فقدنا "أحمد بهاء الدين" الذى كان يضع سنّ قلمه على نبض الواقع ويخط آلامه بدُربة وفهم واف مهما كانت صادمة لسدَنَة النظام، إلى أن منعوه من الكتابة لأن ضمائرهم الفاسدة لم تكن تحتمل صدقه، وأتمنى أن يكون حظ "وائل" أوفر منه لأن من يترصدون الأقلام الآن من ذوى الضمائر المهترئة أحاطوا بنا مجددا، وهُم أسوأ وأقسى، لكن شجاعته فى مواجهة "العسكر والفلول وانتهازية اللِحى" منحته ثقة أهل الثورة، وإعجاب الرأى العام عن جدارة!.

- وسط المخاوف المحيقة بنا، الآن وهنا، والظلامية الزاحفة بلهفة وطمع، توجبت علينا تحية القناديل الخمسة، شطرها لروحى الراحلين وإبداعهما الذى ما زال يمنحنا المتعة والسعادة والوعي، وسيبقى إلى مدى غير منظور، والشطر الثانى حُبّاً وإكبارا لدور الثلاثة الأحياء مدّ الله فى أعمارهم، ليظلوا كما هم مصدرا للضوء والأمل فى حياتنا التى سظنناها ستمتلئ عدلا وكرامة، لكننا فوجئنا بالأفق يعتم من جديد بحلكة مُقبضة لا يبددها إلا دأب وهمّة القناديل!.





مشاركة




التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

هشام محمد رفعت محمد صالح

فعلاً كلام صادق وصحيح

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة